«نهاران» الرواية الثانية للأديبة المغربية لطيفة حليم، هي رواية وكما يخبر العنوان، تحكي رحلة شخصية تُدعى منى خلال نهارين، واحد بمونتريال وآخر بشيكاكو، يشكلان فصلين متجاورين ومتعاقبين في الرواية.
ويتولى السرد بالرواية سارد غائب غير مشارك بالأحداث، يتابع البطلة في حلها وترحالها، تشكل له موضوع تبئير وسرد، فيكون عين كاميرا تلازم الشخصية وتتابعها، لنقل ما تراه وتفكر به وتحس وتتفاعل معه، ويشتغل كل فصل -يوم- كمتتالية وفق علاقتي الانفصال والاتصال.
يملك الفصلان استقلالها وانفصالهما، بناءً على معايير فضائية وحدثية وممثلية، فلكل فصل فضاء وشخصيات وأحداث في تفاعلها المنفصل ينمو الفصل ويستقل عن سابقه أو لاحقه.
الاتصال يجعل من الحكايتين كلاً واحداً، فيعتمد معياراً ممثلياً هو الشخصية الرئيسة من جهة، والسارد المتباين حكائياً لا يتخلف عن وضعه السردي من جهة أخرى، إذ يحضران معاً في النهارين ـ الحكايتين، يؤمنان العبور والتلاحم بين الفصلين - النهارين.
والنهاران لا يشكلان لا في استقلالهما ولا في تواليهما وتقاطعهما، نصاً حكائياً يتطور وينمو تصاعدياً، بل هما فسيفساء أحداث تأتي أحياناً في شكل خبر أو حدث أو حكاية، تستمدهم الساردة من الماضي والحياة اليومية، لكن المحكي لا يقتصر فقط على الساردة، بل يهتم بمحكيات شخصيات نسائية من أقطار عربية وغير عربية تلتقي بها الساردة في رحلتيها، أو تسمع بها، وهكذا ينتقل السارد بين شخصيات مختلفة لكن الشخصية الرئيسة تظل المحور والمحفز على النقل.
القراءة الأولى تجعلنا نتبين علاقة تجاور فضائي بين الأحداث، لأنها منفصلة في المكان والزمان، لا تكمل بعضها البعض، بل تخلق انتشاراً سردياً لا يلحمه سوى الشخصية الرئيسة.
ولا تتأسس الرواية كنص معزول همه الحكي ومتعته، ولكنها تتأسس في أفق حواري، فما يجعل الرواية تتحقق هو تشكلها من نصوص مختلفة فيها الشعر والحكاية والتاريخ المعاصر والفلسفة والأغنية، نصوص تندرج في النص وكأنها امتداد للحكي، وإنتاج من قبل البطلة أو باقي الشخصيات، خاصة وأن النص يغفل في كثير من الأحيان مصدر القول، ويتحقق النص الروائي باعتباره فضاءً يحاور ذاكرة ثقافية متنوعة، حبلى بأحداث يحاول السارد من خلال البطلة إخراجها من بعدها الواقعي، فتتخلى الرواية عن اللهاث وراء تحقيق المتعة السردية، وتدعو القارئ إلى بناء النص وتفكيكه من جديد.
ويراهن النص على المراوحة بين ترسيخ الأحداث في التخييل والواقع، وينساب كأداء شعري تؤثثه قصائد للبياتي وأدونيس والمتنبي، وحكي تجود به البطلة على لسان ساردها ترصعه أقوال وحكم وحكايات ووقائع تاريخية، وترسم جميعها تلاوين ذات منكسرة. بالنهارين تطالعنا أحداث ترتبط بالوطن العربي، ودول أخرى ليصير العالم في النص قرية صغيرة ينثرها السارد بإيعاز ضمني من البطلة. أحداث تحكي معاناة تعكس أحياناً خصوصية المرأة، وأخرى هماً إنسانياً يعيشه الإنسان المقهور في كل الفضاءات، تحكي عن نضال المرأة وعن حصارها وتمزقها، ولا يكون هم الحكي هو التهويل، لأن السرد يأتي في كثير من الأحيان عابراً سريعاً، ينقل لنا جملاً وملفوظات لا رابط بينها سوى الفضاء النصي. الرواية حالة تعكس قلقاً تعيشه بطلة مهووسة بالكتابة، مرجعيتها إيقاع الشعر ونبضه، متخلفة عما يفترضه وضع الكتابة السردية من طول نفس وروية.
ضمير الغائب في النص قناع فني لا أخلاقي لضمير الكاتبة، وإن كانت البطلة تشير وتنبه القارئ منذ البداية إلى الحياء الذي يطوقها، ويحول دون كتابة لحظة ـ قصيدة، قطعة سردية لا تعين فحواها، وإنما تومئ إليه من خلال حديث ملغز على لسان جدتها.
تنظر منى إلى ذاتها، تحكي ما يقع لها وكأنها أخرى، وتفرض هذه المسافة قلقاً تعيشه، إذ تحمل أكثر من هم كما قلنا، هم المطبخ الذي لا تغادره حتى وهي بمونتريال أو بشيكاجو، هم الكتابة وبواسطتها تنسى المطبخ وتحمل هموم المجتمع ومشاكله وتناقضاته، قلق يفسره ذاكرة البطلة المحملة بأكثر من مرجعية تعتمل داخلها وهي تمشي بشوارع مونتريال وشيكاكو.
صدرت الرواية في طبعتها الأولى سنة 2012 عن منشورات فكر سلسلة إبداعات.