بقلم - محمد الواعظ
عند زاوية ضيقة من زوايا سجنه المفتوح، اختار لنفسه العزلة تنحيه عن العالم الخارجي، يعلم أن مصيره المنتظر آتٍ لا محالة، سبق لأقرانه أن غيبهم ذات المصير بأبشع صورة ممكنة.
الموت.. فكرة يقبلها المنطق بصبر محدود، لكن الاقتراب من الموت وشم رائحة أنفاسه، لا يقبل ضعفه المجبول عليه.
ينظر إلي بعينين تملؤهما كل أصناف البؤس والشقاء، إذ سدت جدرانها مجرى الدمع، بينما يمضغ لقمة التعاسة، يتذوق طعم الذل الممزوج بالانكسار، تتحتم عليه الأقدار أن يعيش في الدنيا أسير الحرمان حتى يسكب آخر نقطة دم على خاتمة صفحة حياته.
يحرك قيوده يائساً، لقد حرمت عليه رؤية وجه الحرية التي احتكرها أحياء بني آدم، إذ فقد الأمل في الاشتياق لمراميها، ينتظر الإعدام يسن سيف المنية، ثم يعد له قبراً وضيعاً بلا جنازة وبلا تراب.
يبعث إلي نظرة مدموغة بالأوجاع، يناجيني في نفسه، يدعوني أن أشاركه كأس أحزانه، كيف لا وقد كنت خير جليس في ساعة شقائه هذه. وجدته أمثل صديق يكتم الأسرار، يجيد فن الإنصات، يحدثني بلغة القلوب، فأحدثه بلغة اللسان، لكني لم أسمع سوى مشاعر تبوح بالآهات، أرى عينيه وقد خانتهما العبرات، ولسان حاله يلفظ الحسرات، صار مستودعاً لهموم أقرانه الأحياء، بات مصدراً لإشباع نهامة بني آدم.
هناك في موطنه يحتفلون بسلام، بينما هنا يجاهد على ابتلاع لقمة التعاسة هذه، لذا حان وضع حد لنهاية القدر المأساوي، إذ لابد للآلام أن تزول، ولابد للقيد أن ينكسر.
فككت قيوده بضمير مهزوز الكيان، ثم لكزته على جسده الممتلئ بوسيلة من وسائل الستر والوقاية، لكزته بقوة وأنا أجبره على التحرك، هيا الحرية تنتظرك في الخارج، اذهب وعانق شمسها قبل أن يراك السجان، الباب مفتوح انطلق بأقصى سرعة ولا تفكر بالعودة.
أول ما تجاوز الخط الأحمر، انطلق يجري في المجهول، يقتفي شذى الحرية، ظهر السجان -الذي هو أبي- حاملاً ساطوره، و لما رأى الموضع خالياً سألني بارتياب:
- أين هو؟.
-..................
- قلت لك أين هو؟.
أجبته بصوت متأتئ:
- لقد حررته.
- ماذا فعلت؟!.
قلت بصوت ينم عن براءة الطفولة:
- خلصته من المعاناة.. لابد أن يعيش حراً طليقاً مثل غيره ومثلنا نحن.
ألقى أبي الساطور على أرضية المسلخ، واحتد في وجهي:
- يا أبله، هذا خروف العيد، ماذا سنأكل الآن؟.
ثم انطلق يجري وراء الخروف الهارب، بينما أنا تسمرت في تلك الزاوية أسائل نفسي، هل كان السجين خروف العيد؟.
* ملاحظة: تمت المشاركة بهذه القصة في جائزة وزارة التربية والتعليم «المسابقات التربوية - فرع القصة القصيرة» وحصدت المركز الثالث.