كتب ـ أمين صالح:
رحل لويس بونويل من أمريكا واستقر بالمكسيك عام 1947، وهناك وجد صعوبة بالغة في إيجاد منتج يقبل توظيف أمواله في أفلام يرغب في تحقيقها على طريقته الخاصة، وعن موضوعات تثير اهتمامه.
وبعد توقف عن العمل السينمائي استغرق 17 عاماً، أخرج بونويل في المكسيك، ما بين أواخر الأربعينيات وبداية الستينيات، حوالي عشرين فيلماً تقريباً، أغلبها ذات طابع تجاري من النوع الميلودرامي المغلف بالدعابة والفكاهة.
يقول بونويل “في المكسيك أصبحت محترفاً في عالم السينما، قبل مجيئي إلى هنا كنت أحقق الأفلام بطريقة كتابة المؤلف للكتاب، كنت أعتمد على نقود أصدقائي، أنا مقر بالجميل وسعيد جداً لإقامتي في المكسيك، حيث كنت قادراً على تحقيق أفلامي هنا بطريقة ما كان ممكناً أن أفعلها في أي بلد آخر، صحيح أني في البداية ولظروف خارجة عن إرادتي وجدت نفسي مرغماً على صنع أفلام رخيصة، لكني لم أحقق أبداً فيلماً يتعارض مع ضميري أو قناعاتي.. لم أحقق قط فيلماً سطحياً وغير ممتع”.
في عام 1947 أخرج أول أفلامه المكسيكية “الكازينو الكبير”، لكنه لم يحقق نجاحاً عند الجمهور والنقاد معاً يقول بونويل “يحتوي الفيلم على الكثير من الغناء والرقص.. التانغو وما شابه، الأحداث تدور في تامبيكو في فترة التنقيب عن النفط، السيناريو لم يكن سيئاً على الإطلاق، لكن بطلي الفيلم كانا من المغنيين المعروفين في المكسيك والأرجنتين، لذلك جعلتهما يغنيان طوال الفيلم، كان ذلك أشبه بمباراة بينهما على البطولة”.
فيلمه التالي “المتهور الكبير” 1949 عن مليونير يدمن على الخمر بعد وفاة زوجته، يبدد أمواله فيما عائلته تستفيد من هذا الوضع، ورغم إدراكه ما يجري حوله إلا أنه لا يكترث، بعد سبات عميق، يصحو في مكان بائس في الضواحي ليجد أفراد عائلته يرتدون أسمالاً بالية ويمارسون مهناً وضيعة، هو يصدقهم ويستبد به الندم إلى حد أنه يحاول الانتحار، لكنه يكتشف مؤامرتهم بالتظاهر بالفقر، ويلقنهم درساً قاسياً بالتظاهر بالإفلاس.
عن فيلمه التالي الشهير “المنسيون” 1950 يقول بونويل “لم يلق (الكازينو الكبير) إقبالاً كبيراً، قضيت سنتين عاطلاً عن العمل.. في النهاية طلب مني المنتج أوسكار دانسيجرز تحقيق فيلم عن الأطفال، بحذر شديد اقترحت سيناريو (المنسيون) الذي كتبته مع صديقي لويس ألكوريزا، أعجبه السيناريو، وطلب مني أن أنفذه، لكن في غضون ذلك فكر في إنتاج عمل كوميدي تجاري، فاقترح أن أخرج أولاً فيلم (المتهور الكبير)، وفي المقابل يمنحني حرية فنية أكبر في (المنسيون).. هكذا صورت الفيلم في 16 يوماً ونجح جماهيرياً”.
بونويل هنا يستفيد من ابتكار الكاتب والمؤرخ الإنجليزي توماس كارلايل لمفهوم البيئة في القرن التاسع عشر، راسماً صلةً سببية بين الفقر المتفشي في الأحياء والسلوك العنيف الذي يمارسه فتيان الشوارع في مكسيكو سيتي في الخمسينيات.
ينتمي الفيلم إلى الاتجاه الواقعي.. أحداثه تدور في الأحياء الفقيرة المنتشرة في العاصمة المكسيكية، عن مجموعة من الفتيان الجانحين، ممن يرهبون الآخرين ويروعونهم، مع تركيز البؤرة على الصبي بيدرو، ابن الشوارع الذي يجد نفسه مسؤولاً عن عائلته وهو لم يكمل عامه الثاني عشر، متحملاً ضغوطات أمه القاسية والفاترة عاطفياً، إنه يبذل جهوداً مضنية في الحصول على المال، حتى لو بطرق غير مشروعة، وفي صراعه من أجل البقاء.. كما هو الحال مع بقية فتيان الأحياء الفقيرة، الذين يرون إلى الحياة بوصفها رحلة قصيرة قاسية، لا عدالة فيها ولا أمل.. إنهم أفراد منسيون.
بيدرو في قرارته يريد أن يكون طيباً وخيراً، أن ينتزع من أمه الحب والاهتمام، لكن عبثاً... لذلك ينساق رغماً عنه وراء الصبية الجانحين -عائلته البديلة- مرتكباً معهم الآثام الصغيرة، وإلى هذا العالم المحفوف بالمخاطر، يأتي شاب “جيبو” خرج لتوه من السجن ويرغب في بسط سيطرته على الشوارع، وسرعان ما يصبح بالنسبة لبيدرو الأب البديل.. إنه يعدهم بالغنى إن قبلوا أن يكون زعيماً عليهم، وبيدرو يساعده في انتقامه من الفتى الذي وشى به وأدخله السجن، لكن بيدرو يلقى مصرعه على يد جيبو، ويكتشفون جثته المضروبة بالهراوة، يرمونها بين أكوام القمامة، أما جيبو فيموت برصاص الشرطة وهو يحلم بالموت فيما يقوده صوت الأب المتخيل.
الفيلم يركز بؤرته على الفقر الذي يجعل من الصعب المحافظة على الكرامة الإنسانية، وعلى العنف المنتشر على نحو غير مكبوح، الموجه ضد الآخرين، وحتى الأفراد العاجزين، مثل ذي الساق الواحدة، الشحاذ الأعمى، وغيرهما.
الفيلم عندما عرض للمرة الأولى في المكسيك، جاوبه بنقد قاس ونفور ومحاولة انتقاص من قدره، ولم يعرض أكثر من ثلاثة أيام، كذلك الحال عندما عرض في أمريكا تحت عنوان “الشباب والملاعين”.
وعن هذا قال بونويل “حين عرض فيلم (المنسيون) للمرة الأولى لقي فشلاً ذريعاً، شركة كولومبيا وزعته بشكل سيئ تماماً.. هكذا يفعلون دائماً، تلك هي سياسة هوليوود، إنها تشتري كل ما من شأنه أن يشكل تهديداً، كي تتحاشى المنافسة، لكن سياسة كولومبيا تمضي أبعد من ذلك، إنها سياسة فنية تعتمد على شراء الفكر من أجل تدميره، ثمة سبب آخر أساسي لفشل الفيلم أزعج في ذلك الوقت السود والبيض معاً”.
وأضاف “حين عرض الفيلم في نيويورك، طالبت صحف هارلم بشنقي من قدمي، مثل موسوليني، في الشارع الخامس.. الصحف الأخرى تجاهلته تماماً ولم تشر إليه بكلمة، أما نيويورك تايمز مزقته إرباً، الكثيرون لم يعجبهم الفيلم، قالوا إنه يسيء إلى المكسيك، وإنها ليست المكسيك التي نريد عرضها على العالم، حتى أن البعض طالب عبر الصحف بترحيلي عن البلاد”.
شارك بونويل في كتابة السيناريو لويس ألكوريزا -وهو ممثل، كاتب، ثم تحول إلى الإخراج- وعمل مع بونويل في كتابة عدد من أفلامه،
حاز بونويل عن هذا الفيلم جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان 1951.