قصة قصيرة ـ جعفر الديري:
ثمان ساعات مرّت حتى الآن وهو على حاله هذه! ثمان ساعات والزوجة الوفية المخلصة نائمة في فراشها دون أن تُكلف نفسها أن تطل على هذا الزوج المريض، القابع في مكانه يتألم من أثر حصاة تسدّ مجرى البول، وتدفعه في كل لحظة ليقيء ما في صدره!.
الصالة واسعة، والغرف كبيرة، وجميع من فيها نائمون أو يتصنعون النوم!، وحده هو من يطلب النوم فلا يستجيب له سوى دقائق سرعان ما تنقطع مع اشتداد الألم.
سبحانك يا رب! من أي شيء جُبلت هذه الزوجة؟! ألا تسمع صوته وهو يئن من أثر الألم تكاد روحه تبلغ التراقي؟!، ومع ذلك لا لوم على أحد سواك، أنت من اختار هذه الحياة، واندفع فيها بلا تبصر، فانظر أي منزلة تسافلت إليها.
انفتح باب الصالة فأطلت ابنته الجميلة يتبعها خطيبها، تحبه لا ريب في ذلك، لكنها ضعيفة أمام أمها، ولا تقوى على مخالفة أمرها، كشأن جميع أخواتها وإخوانها، وهذه أيضاً لا حق لك فيها، فأنت ضعيف أيضاً ولا تقوى على مخالفة زوجتك!.
- كيف صحتك أبي؟
- كما ترين
- لايزال الألم شديداً؟
- وكيف يخف دون دواء؟!
كان يحاول إثارة الشفقة في قلب خطيب ابنته، لكنه كان متيقناً أنه لن يُقله للمستشفى، فلا أحد في هذا البيت يحترمه أو يُعنى بأمره.
دلف الزوجان الجديدان إلى الداخل، بينما أخذت عيناه تتأملان في الصالة الكبيرة، في الصمت الذي يشمل كل شيء، في الوسائد المبعثرة في كل مكان، في بقايا الأكل المتناثرة هنا وهناك، في بقع الزيت وفي الفئران التي تتحرك بحرية دون أن يُعنى أحد بصدها! في النمل يتعاون على حمل كسرات الخبز، ألا ما أتعسها من حال! أرغفة الخبز اشتراها بنفسه منذ ساعات كما هو شأنه كل ليلة، زيادة في الحرص على ألا يجوع أحد في بيته، ليس هذا وحسب، بل إنه يجهد في إصلاح كل شيء بنفسه، ليس عن بخل والعياذ بالله، بل لأنه متوسط الحال ويخشى أن يُقصر في حق زوجته وعياله، إنه حتى لم يشتر ثياباً جديدة منذ سنوات خمس، ولم يسافر منذ أعوام عشرة، وابتسم لذكرى السفر، وانداحت أمام عينيه صور شتى لأيام العزوبية، ألا ما أبعد صورة الحياة بالأمس عنها اليوم!.
كان الجيب مليئاً بالمال، والقلب خلي من الهموم، والرفقة جديرة بالحياة، وكل شيء مُعد سلفاً كي يعيش وينهل من معين السعادة ما يشاء، وشباب القرية الرائعون يتزلفون منه، وزملاء العمل يُحبون أحاديثه الساخرة وحكاياته الظريفة، والنخلة تتحرك سعفاتها بهدوء، والمساند في مكانها، والشاي الساخن، ومنفضة السجائر مليئة عن آخرها بسجائر الأمس، والقلب في نشوة يترقب الإجازة السنوية والسفر إلى بيروت، وتطلع ناحية صديقه يوسف:
- هل لايزال المسمار في جيبك؟!
وضحك يوسف، حتى شرق بدخان السيجار، وقال وعيناه مليئان بالدمع:
- غربل الله شيطانك، أمازلت تتذكر المسمار؟!
- إنها ذكرى طيبة أليس كذلك؟!
وانفجر يوسف في الضحك مجدداً..
- أسكت، لم أعد بقادر على الضحك
وصحا من ذكرياته على صوت صياح، كانت زوجته...
- هل أصبت بالصمم؟!
رمقها للحظة، ثم أدار برأسه عنها، وسرعان ما أحس بالغثيان فأفرغ ما في جوفه في دلو الماء.