كتب - علي الشرقاوي:
يقول الباحث الشاب خالد البسام في مقدمة كتابه «محمود المردي.. انضواء قلم» «أعجب محمود بالمسرح كثيراً لكنه وجده في نهاية المطاف مجرد هواية، فالبحرين لم تكن تحترف الفنون والآداب عموماً ولاتزال، فلا يمكن أن يعمل بها طويلاً، أو يعيش منها على الإطلاق، وهكذا هجر المسرح وظل متعلقاً بالفن والأدب عموماً... وفي جو القراءة المكثف هذا بدت له الصحافة وكأنها الخلاص». المردي الشاب حامل هموم الوطن، كان يبحث عن مساحة أوسع من رقعة جمهور المسرح، لذلك سارع بتحين الفرص، ومن خلال قراءة ما كتبه بعض الباحثين البحرينيين الجادين، أمثال د.منصور سرحان وبشار الحادي وخالد البسام والراحل د.هلال الشايجي والمفكر د.إبراهيم عبدالله غلوم، نحاول إلقاء الضوء على تجربة المردي الصحافية.
الشاب الراكض وراء تحقيق حلم الريادة، حقق حلمه من خلال الصحافة التي عشقها بكل خلايا دمه وأصبح الرائد الأول للعمل الصحافي في البحرين، ورائداً في الخروج من المسرح التاريخي إلى الاجتماعي.
البداية مع «صوت البحرين»
قبل الحديث عن مجلة «صوت البحرين» لابد من الإشارة إلى دور حكام البحرين آنذاك، كانوا يقفون مع كل من يسهم في الوعي الثقافي والوطني، وجاء في الصفحة الثالثة من العدد الأول للمجلة كلمة سامية لصاحب العظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين نقتبس منها «إن إصدار مثل هذه المجلة في بلادنا أمنية تمنيناها وحققها الله على أيدي شبابنا الناهض، فنرجو لها التقدم والازدهار».
ومن الضروري التأكيد أن المردي الشاب بدأ خطواته الحقيقية في ميدان الصحافة عام 1950، عندما أسس مع مجموعة من الأصدقاء مجلة «صوت البحرين» وأصبح سكرتير تحريرها.
وكتب المردي في العدد الأول من «صوت البحرين» كلمة عنونها بـ»هذه المجلة»، شرح فيها كيف تحولت فكرة إصدار المجلة إلى واقع ملموس، والعقبات التي واجهت المجلة لجهة الطباعة والنشر، وكانت كلمته أهم وثيقة عن المجلة.
ونصت الكلمة «كانت مجرد فكرة لم نكن نتوقع أن تخرج إلى حيز التنفيذ.. فكرة تداعب أحلامنا منذ أمد طويل.. كنا خمسة نتجاذب أطراف الحديث، بل الأماني العذاب دون أن تتوفر لنا وسيلة لتحقيقها.. كان الهمس يدور بيننا فيما يشبه أنة المذبوح.. نرى شباب الأقطار العربية وقد شمروا عن ساعد ودخلوا مضمار الكفاح والبناء.. ووضعوا اللبنات الأولى لنهضة فكرية بينما شباب البحرين يغط في نومه مستمرئاً حياة الكسل والخمول، واستعرضنا حركات شبابنا وجهودهم في سبيل الرقي والتقدم فرأيناهم -ونحن منهم- ينتهون من حيث يجب أن نبدأ.. وغاية ما وصلوا إليه هو إنشاء أندية ثقافية تنحصر رسالتها في حيز ضيق محدود بين طائفة معينة من الشعب، أما السواد الأعظم من الشعب يعيش بمنأى من أن تصل إليه همسات الشباب في ذلك النطاق الضيق.
هنا نشأت الفكرة غامضة غير واضحة وأخذت المناقشات تعلو فتلبسها ثوب البروز والوضوح، وإذا الجمع انفض وأخذت فكرة إصدار «صوت البحرين» سبيلها إلى الوجود.. ألم أقل إنها كانت فكرة وأنها كانت وليدة اجتماع غير مقصودين؟ ولكن كيف السبيل إلى تحقيق هذه الفكرة ودون ذلك ما دونه من المصاعب والعقبات؟.. وكيف يتم الطبع؟.. وهل ستكون الأقلام حرة في الجهر بما تريد؟ ومن يمول المشروع؟.. وأخيراً -وهو الأهم- هل سترحب السلطات بالفكرة وتتعاون معنا في تحقيقها؟.. أسئلة متراصة متلاحقة لم نجد لها جواباً حاسماً آنذاك.. ولكننا تعاهدنا أن نبذل ما في وسعنا لتحقيقها ووزعنا اختصاصات هذا المجهود فيما بيننا.. فهذا موكول إليه جس نبض السلطات ومعرفة رأيها في الموضوع، وذاك للاتصال بنخبة من الشباب وغرس الفكرة في أذهانهم لنيل مناصرتهم في هذا السبيل، وآخر للاتصال بأعيان البلد واكتسابهم إلى صفنا.. وقطعنا في كل هذا شوطاً ناجحاً، والتأم الجمع ثانية لنستعرض الجعبة فيما أتيناه.. فإذا السلطات تتعاون معنا إلى حد الوعد بطبع المجلة مجاناً في مطابعها بعد استكمال آلاتها الناقصة، وإذا براعينا الأمير سمو الحاكم المعظم يبارك الخطوة ويمد بتقديم كل ما يلزمنا من عون وتشجيع.. وإذا الشباب يلهجون بالمشروع ولمعت أعينهم حماساً واشتعلت قلوبهم إيماناً بحاجتنا الحسيسة إلى «صوت» للبحرين يبلغ الملأ ما نصبو إليه ويكون مرآة صادقة لآمالنا ومشاعرنا في الإصلاح.
لمسنا كل هذا الحماس والتشجيع فاغرورقت مآقينا بالدموع... دموع الشكر لله والإيمان بهذا الشعب الذي وهبنا نفوسنا لخدمته ونحن نستصغرها عليه.. وبرزت لنا في الطريق عقبات جديدة، فمطابع البحرين لا تستطيع إبراز المجلة في الثوب القضيب الذي أردناه لها، ومطابع الكويت الشقيق تأبى أن تطبعها إلا إذا أخضعنا موادها لقلم الرقيب هناك يشطب منها ما يريد، وليتصور القارئ الكريم أن تكون المجلة خاضعة للرقابة في البحرين والكويت ليتسلمها بعد ذاك أوراقاً بيضاء من غير سوء!.
أدرنا وجوهنا شطر مصر، كنانة الله، واستصرخنا الصديق الكريم الأستاذ عبدالعزيز حسين مدير بيت الكويت، بدا روحاً طيباً واستعداداً مشكوراً للتكفل بطبع أعداد المجلة في مصر، لكننا اصطدمنا بالأعباء الجسمية التي سنكلف بها ذلك الصديق الكريم وهو يشغل منصباً له أعباؤه وأتعابه فصرفنا النظر مرغمين عن تلك الوسيلة.
وتعددت بنا السبل وتشعبت الآراء، حتى اقترح البعض أن تطبع أعداد المجلة على «الجستتنر» مؤقتاً، وأضاف أحد الخبثاء «لم لا ننسخها باليد نسخة نسخة؟! وركن المشروع على الرف كغيره من مشاريع شبابنا الكريم وكان على عناكب الإهمال والنسيان أن تنسج خيوطها حوله وتلفه في طياتها كما لفت غيره من قبل، ولا غرابة في الوضع فهذا مصير كل مشروع عندنا، تماماً كما إن الموت مصير كل شيء حي!.
هنا تخلف الحوادث ظننا في الشباب لأول مرة، وبينما نحن نشارف الغرق واستنزفت قوانا ما بذلناه من جهود ما كادت تومض إلا لتنطفئ، إذا بسواعد قوية تتلقفنا إلى بر النجاة، وإذا المشروع قاب قوسين أو أدنى من التحقيق.. ونتلفت باحثين عن السر في هذه الثورة المفاجئة بعد الضعف والحماس المتأجج بعد الفتور، ويجيئنا الجواب دون عناء في الشباب!. الشباب الذي أحاط بنا يستحثنا ويرفع من عزائمنا الخائرة حتى أعاد لنا الثقة في أنفسنا، والشباب الذي جند نفسه لتقصي الأخبار والطرف يوافي بهما المجلة، وسار المشروع حينئذ في طريق التحقيق تشد من أزره همم لا تعرف الكلل في شباب متوثب طموح، وهكذا برز أول عدد من المجلة إلى الوجود، وبعد هاهي المجلة بين يديك نقدمها لك معتذرين، لأننا لم نستطع أن نبلغ بها الكمال الذي ننشده، وهو مركب صعب على المحترفين بل الهواة.
ولكننا نعد، والله ولي التوفيق، أن نكون عند حسن ظنك في التطور والارتقاء وأن نعتصر ما بقي لنا من جهد ليكون العدد الثاني أحسن من سابقه، وأن يكون الثالث أحسن من الثاني وهكذا دواليك... بقيت لي كلمة أخيرة أوجهها إلى القارئ الكريم أياً كانت شخصيته وثقافته، وهي أننا نرحب بكل نقد وتوجيه وأننا -كما ذكرت- هواة نخطو الخطوة الأولى نحو صحافة عصرية راقية، ولن ننسى لنا تحقيق ما نصبو إليه ما لم يكن في تعاون القارئ معنا رمزاً لهذا السعي نحو الهدف المنشود.
إن هذه المجلة من الشعب وإليه، وهي تفتح صدرها لجميع أبناء الشعب تقبل كل ما يتفق ورسالتها من السعي نحو حياة أفضل والنهوض بهذه الأمة الكريمة نحو مدراج الرقي والكمال، أخذ الله بيد الجميع إلى ما فيه خير الأمة والوطن».
حاكم البحرين
يدعم طموح الشباب
يتذكر إبراهيم حسن كمال قصة تأسيس مجلة «صوت البحرين» ويقول «كنا مجموعة من الشباب المهتمين بالثقافة والأدب والمعرفة، نتتبع بحرارة ما يجري في مصر والأقطار العربية آنذاك، ونتطلع إلى وجود مطبوعة تحمل اهتماماتنا ونكتب فيها ما يجول في خواطرنا.. كان حلمنا صحيفة قادرة على استيعاب هذه الطموحات الكثيرة، وكما قلت تأثرنا بالصحافة العربية فأزمعنا على إصدار صحيفة».
ويضيف «منذ اللحظة الأولى أسندت إلي مهمة تحقيق هذا الطموح، عن طريق اتخاذ الإجراءات الرسمية المطلوبة، وكان إصدار الصحافة صعباً جداً، تعاطف حاكم البحرين آنذاك المغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة مع طموحنا، ما جعل هذا الطموح يصير واقعاً، وأكد المغفور له الشيخ سلمان مساندته بأن منحنا مكتباً للمجلة عند مبنى البلدية القديم في المنامة».
ويردف «ارتأينا تأسيس مجلة شهرية أدبية اجتماعية، وأسميتها صوت البحرين وعلقنا يافطة باسمها في المكتب الذي منحنا إياه المغفور له الشيخ سلمان».
ويشرح إبراهيم كمال «تأسيس صحيفة لا يمكن أن يكون سهلاً، في ذلك الزمان كانت الصناعة الصحافية غير مزدهرة لجهة توفير المطابع وملاءمتها مع مصاعب التأسيس الكثيرة.. استطعنا أنا ومجموعة من المتحمسين أن نجمع مادة العدد الأول ثم حين اكتملت لدينا الاستعدادات، أصدرنا عددها البكر، وطبعناه في مطبعة المؤيد في البحرين، وهو العدد الوحيد الذي طبع في المملكة، وبعدها اتجهنا لطباعة المجلة في بيروت، وبقيت المجلة تطبع في لبنان حتى توقفت».
وعن الصدى الذي أحدثته المجلة بصفوف المثقفين يتابع كمال «لقيت «صوت البحرين» إقبالاً شديداً من القراء، وكانت توزع بشكل لم نكن نتوقعه، كنا نبيعها بروبية واحدة، كان القراء يستعجلوننا لأخذ أعدادهم حتى قبل توزيعها في الأسواق، وموظفو المطار كانوا يفتحون الطرود ويأخذون أعداداً من صوت البحرين لقراءتها».
كانت «صوت البحرين» تغطي بعض كلف طباعتها على حد قول إبراهيم كمال «كنا نحصل على دعم مادي منظم من المغفور له حاكم البحرين آنذاك الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، وكنا نقدم له بناء على طلبه قائمة بالكلفة في بعض الأحيان، وكان رحمه الله يسددها إلى أقرب بيزة فيها، كان يساعدنا ويساندنا، ولذا لم نكن نعاني من أي ضائقة مالية في طباعتها وكانت أعداداً كثيرة منها تباع».
أما سبب توقف المجلة عن الصدور يقول عنها كمال «أغلقها مستشار حكومة البحرين بلجريف، لما كانت تسببه من إحراج للسلطات المستعمرة، ومن المعلوم أن إصدار صحيفة في البحرين أو مجلة أمر صعب للغاية، ولما كنت أنا المتقدم بالمطلب بوصفي سكرتيراً لوزير المعارف الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة، وافق الشيخ سلمان على المطلب ومنحني موافقته التامة، ليس هذا فحسب بل أعطاني مكاناً للنشر ودعماً مادياً، وقبل هذا كله دعماً معنوياً وتشجيعاً منقطع النظير».
المثقفون يغنون
«صوت البحرين»
يقول الدكتور منصور سرحان «كان لمساهمة طليعة المثقفين من أبناء البحرين في هذه المجلة أثره الكبير في جعلها مجلة أدبية اجتماعية رائدة، ومن بين المساهمين بأقلامهم فيها، علي التاجر، حسن جواد الجشي، تقي البحارنة، إبراهيم حسن كمال، وإبراهيم العريض».
ويدلل د.هلال الشايجي على مقدرة وكفاءة بعض هؤلاء الكتاب ويقول «حسن الجشي مثلاً امتاز بنتاجه الوفير المتنوع نتيجة لاتساع ثقافته التي تتميز بها مقالاته، فيما امتاز تقي البحارنة بقدرته الأسلوبية، وميله لدراسة موضوع المقالة والاتساع في معالجته حتى الخلوص إلى النتائج بعد العرض والتحليل، أما علي التاجر فهو لا يجاري الجشي أو البحارنة في كثرة الإنتاج، إلا أن روحه الأدبية واضحة في مقالاته وله عناية خاصة بالترجمة وينشد في أسلوبه الجماليات إضافة إلى امتلاكه أسلوباً رفيعاً، ويرتبط إنتاج إبراهيم حسن كمال في المقالة بالمناسبات والنقد الاجتماعي ويميل في أسلوبه إلى الاعتدال، وإن كان لا يصل في قاموس تعبيره إلى الحد الذي وصل إليه بعض زملائه».
مشاكل طباعة المجلة
عرفنا إن العدد من مجلة «صوت البحرين» طبع في مطبعة المؤيد، والأعداد الأخرى طبعت في بيروت، ولكن كيف كانت المجلة تصل إلى بيروت من يأخذها؟!.
في أكثر من مناسبة سمعنا د.جليل العريض يتحدث عن قصة طباعة «صوت البحرين» في بيروت، ومن خلال أكثر من مصدر قال العريض «في يوليو من عام 1949 تم ابتعاثنا أنا وماجد وعلي محمد فخرو للدراسة بالجامعة الأمريكية في بيروت، وقبلنا في الكلية الثانوية المرتبطة للحصول على شهادة إكمال الدراسة الثانوية فيها، تمهيداً للالتحاق بالسنة الأولى في الجامعة المذكورة، وهكذا كان، إذ التحقنا نحن الثلاثة بالجامعة في سبتمبر 1950، وكان نظام الابتعاث لا يسمح للمبتعث بالعودة إلى البحرين إلا مرة واحدة كل عامين».
ويضيف العريض «واكب تاريخ التحاقنا بالجامعة صدور العدد الأول من صوت البحرين، إذ صدر ذلك العدد يوم 19 سبتمبر 1950، وكان الأستاذ حسن الجشي أحد أعضاء هيئة التحرير، وضمت الهيئة إلى جانبه كلاً من عبدالعزيز الشملان وعلي التاجر وعبدالرحمن الباكر، فيما شغل محمود المردي سكرتارية التحرير، ومديرها المسؤول إبراهيم حسن كمال، وكلف حسن أخاه ماجد بمتابعة أمور طباعة المجلة المذكورة لدى مطبعة دار الكشاف في بيروت، وتولى ماجد تلك المهمة طوال سنوات صدورها الممتدة حتى شهري يوليو وأغسطس 1954، عندما صدر آخر أعدادها».
رصانة الفكر
يقول د.منصور سرحان في كتابه «الصحافة في البحرين.. رصد الصحف المتوقفة والجارية» إنه «رغم اهتمام جميع الصحف المحلية الصادرة في الخمسينات بالفكر والأدب، إلا أن مجلة «صوت البحرين» تعد المجلة الوحيدة التي لعبت الدور الريادي في تطوير الحركة الثقافية والأدبية في البلاد» وقال المفكر البحريني المعروف د.محمد جابر الأنصاري الكلام ذاته.
مثلت المجلة مدرسة رصينة ونموذجاً يحتذى في الكتابة الصحافية الفكرية والاجتماعية، ليس على صعيد الخليج وحده، وإنما في العالم العربي، حيث شاركت الأقلام العربية في أقطار العروبة بالإسهام فيها، ولم يقف وراء مجلة «صوت البحرين» التي كانت تصدر شهرية ثقافية اجتماعية جامعة، شخص واحد بمفرده، بل كانت عملاً جماعياً حقيقياً ضم مجموعة كبيرة من الشباب المثقف من مختلف الميول والفعاليات، وكانت المجلة تعكس تطلعات هذه الجماعة وأهدافها، ومثلت نواة التفكير والعمل وكانت منطلقاً لتطوير الحركة الإصلاحية في البلاد مطلع خمسينات القرن الماضي.