وضع السلطة القضائية في مملكة البحرين اختلف كثيراً بعد بدء التحول الديمقراطي في العام 2001، وميثاق العمل الوطني تضمن الإطار العام لهذه السلطة المهمة من بين السلطات الثلاث (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية)، ثم جاء دستور مملكة البحرين العام 2002 وأقر طبيعة وصلاحيات واختصاصات هذه السلطة، لتأتي المرحلة الأخيرة والتي تضمنت إصدار العديد من التشريعات الوطنية لتنظيم عمل مؤسسات السلطة القضائية واختصاصاتها.بهذه الرؤية أكد حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى دائماً منذ بداية مشروعه الإصلاحي أهمية السلطة القضائية، حيث يرى أن “شرف القضاء، ونزاهة القضاة وعدلهم أساس الحكم وضمان للحقوق والحريات”. ومثل هذه المقولة تعكس أهمية القضاء في الفكر السياسي لجلالة الملك.ومؤخراً استقبل العاهل مجموعة من أعضاء السلطة القضائية، وخلال اللقاء أكد على المبادئ التي يؤمن بها تجاه السلطات الثلاث منذ بداية المشروع الإصلاحي، خصوصاً القضاء، حيث أشار إلى المبادئ الآتية:• المبدأ الأول: القضاء سلطة من سلطات الدولة الثلاث، وليس وظيفة من وظائفها، لا يتدخل أحد في اختصاصه أو يقتطع قدراً من ولايته.• المبدأ الثاني: أن يكون للقضاء مؤسسته المستقلة التي ينتمي لها القضاة وأعضاء النيابة العامة دون أية إمكانية للتدخل في شؤونهم بوعد أو وعيد، بترغيب أو بترهيب.ماذا تعني هذه المبادئ؟المبدأ الأول يعني أن القضاء ليس وظيفة يمكن الاكتفاء بقيام مجموعة من الأشخاص بها، كغيرها من الوظائف في القطاعين العام أو الخاص، بل هي سلطة من السلطات الثلاث، فكما تتولى الحكومة السياسات العامة وتنفيذها باعتبارها السلطة التنفيذية، ويتولى البرلمان التشريع والرقابة باعتباره سلطة أيضاً، فإن القضاء هو السلطة الثالثة المكملة لمنظومة السلطات الثلاث في الدولة. وما دامت سلطة فإنه لا يجوز لأي طرف أو سلطة أن يتدخل في اختصاصاتها، ولا يمكن القبول بانتقاص هذه الاختصاصات لأنها حق مكتسب للسلطة القضائية نفسها.أما المبدأ الثاني، فيؤكد استقلالية القضاء الذي ينبغي الحفاظ عليه باستمرار، ومنع أية محاولات للتدخل في شؤون أعضاء السلطة القضائية سواءً كانوا من القضاة أو أعضاء النيابة العامة. وهذا المبدأ يقوم على المبدأ الدستوري والسياسي (الفصل بين السلطات)، مع ضرورة التوازن بينهم. السلطة القضائية خلال المشروع الإصلاحي لم تقتصر على استكمال مؤسساتها من تأسيس المحكمة الدستورية والنيابة العامة وبعض المحاكم الأخرى المتخصصة والأجهزة التنفيذية والإجرائية التابعة لها، بل شهدت تطورات مهمة من أبرزها تفويض جلالة الملك رئيس محكمة التمييز بنيابته في رئاسة كافة جلسات المجلس الأعلى للقضاء. والرؤية الملكية هنا تقوم على تكريس مبدأ استقلال السلطة القضائية، بحيث يتولى منتسبو السلطة نفسها إدارة شؤونهم وتولي الإشراف على حسن سير العمل في المحاكم والأجهزة التابعة لها، بالإضافة إلى المسائل الوظيفية الخاصة بهم. كل ذلك رغم أن جلالة الملك يعتبر دستورياً رئيس السلطة القضائية، وتصدر الأحكام القضائية باسمه بسبب إقرار الدستور هذه الصلاحيات. التطور الآخر المهم الذي شهده القضاء مؤخراً إقرار تعديلات جديدة لافتة لقانون السلطة القضائية في ضوء مخرجات حوار التوافق الوطني الذي أجري خلال صيف 2011، وقامت هذه التعديلات التشريعية لتأكيد المزيد من الاستقلالية المالية والإدارية للسلطة القضائية منعاً لأي تداخل أو تضارب في الاختصاصات. وتبع ذلك تعديل الأوضاع الوظيفية لمنتسبي الكادر القضائي وكذلك أنظمتهم المالية والإدارية الخاصة.رغم أن تاريخ القضاء في البحرين طويل جداً، ويمتد بشكله المنظم الحالي إلى بواكير القرن العشرين، إلا أن العاهل يؤكد مسألة أخرى مهمة، وهي ضرورة مواكبة السلطة القضائية للتطورات التي يشهدها المجتمع المحلي في ضوء المتغيرات المتسارعة التي يمر فيها. فالمعاملات والمشكلات دائماً ما تتغير بحسب الظروف والمعطيات، وهو ما يتطلب مواكبة مستمرة من القضاء لهذه المستجدات. وهو ما دفع جلالته إلى التوجيه بالتدريب القضائي المستمر، وضرورة تخصص القضاة باعتبارها أولوية، وكان جلالته داعماً لمشروع معهد الدراسات القضائية والقانونية الذي يعد بمثابة كلية متخصصة تدعم نشاط السلطة القضائية.المحكمة الدستورية من أهم المؤسسات التي ظهرت في ظل المشروع الإصلاحي، وتقوم رؤية جلالة الملك تجاه هذه المؤسسة الأساسية في السلطة القضائية على أن تأسيسها من أجل مساعدة العاهل شخصياً في الحكم ولتكون ضمانة دستورية في كافة الأمور التي قد تصدر من جلالته، حيث يتيح قانون المحكمة وأنظمتها لجميع المواطنين اللجوء للمحكمة الدستورية للطعن في دستورية القوانين، وتقوم المحكمة بدورها بالنظر في القضية، وإذا تأكدت أن القانون المطعون فيه غير دستوري يتم تغييره، وإذا كان دستورياً فإنه يبقى ويأخذ مساره العادي في التنفيذ. السلطة القضائية في الفكر السياسي لجلالة الملك ليست مؤسسات جامدة، وإنما هي مؤسسات ديناميكية قابلة للتطوير باستمرار طبقاً للاحتياجات والظروف التي يشهدها مجتمع البحرين، وأكبر دليل على ذلك التطور الكبير الذي شهدته منذ بداية المشروع الإصلاحي بعد الاستفتاء على ميثاق العمل الوطني في فبراير من العام 2001.