ليندا جريج ترجمة أمين صالح:أعتقد أن الشعر، يكون بأفضل أحواله، عند العثور عليه وليس عند كتابته.. تقليدياً وبالنسبة للعديد من الناس، وحتى يومنا، القصائد تكون مثيرة للإعجاب غالباً بسبب جودتها الفنية الحرفية، وما تتمتع به من حس موسيقي، وبسبب براعة اللغة وغزارة التشبيهات، إضافة إلى الإيقاعات والتشكيل. أنا أحترم كل هذه الخاصيات واستمتع بها، لكني لا أقبل أن أعمل لفترة طويلة وأبذل جهداً شاقاً في كتابة قصيدتي فقط، أو قبل كل شيء، من أجل إنتاج مادة جيدة الصنع، تماماً مثلما أرفض أن أضحي بالكثير من أجل الحب إن كان هذا الحب يتمحور في أغلبه حول المتعة واللذة.ما يعنيني وما يهمني، حتى أكثر من التشكيل والصياغة وإيقاع اللغة، هو ما تكتشفه القصيدة في الأعماق، فيما هو أبعد من الجمال والمتع الكامنة في التشبيهات والمجازات.. إني أستجيب أكثر لما يتم اكتشافه بشأن القلب والروح، لما يمكن أن نسمعه من خلال اللغة، والأفضل من أي شيء آخر بالطبع، عندما تتحد اللغة ووسائل الشعر الأخرى مع المعنى لجعلنا نختبر ما نفهمه، ونحن يمكننا ـ على الأرجح ـ أن نجد هذا الاتحاد بالبدء مع دواخل القصيدة أكثر مما لو حاولنا مع سطحها، مع المحتوى وليس مع المغلفات.. غالباً في الورشات والفصول الدراسية، يكون هناك تركيز على كساء القصيدة عوضاً عن الدم الذي يغذي حياتها. في مراحل عمرية مبكرة، تعرضت حياتي إلى تغير عنيف عندما تعرفت على أشعار جيرارد مانلي هوبكنز، ليس بسبب لغة القصائد الفائقة الجمال وإيقاعاتها الآسرة في المقام الأول، بل لأن قصائد مثل “جمال أرقط” و”العوسق” و”ضرب من الصقور” وهبتني وسيلة خاصة لمعرفة الله واكتشاف الأرض.. بالطريقة ذاتها لوركا كان شاعراً مهماً بالنسبة لي في أيام شبابي، بسبب السر واللغز ضمن الغناء، كان هناك إشراق ونورانية في قصائد لوركا وهوبكنز، وفيما يتصل بي، منذ ذلك الحين، كلما رأيت أشراقاً يبدأ في السطوع داخل قصيدة ما، علمت أنها علامة على أن شيئاً مهماً وذا مغزى تم العثور عليه.قد يكون هذا لأن الفن الأساسي في الشعر هو فن إيجاد هذا اللمعان التألق هذا الإشراق والنورانية، إنه الاختلاف بين القصيدة القابلة للنشر والقصيدة التي تهم، من المؤكد أن بإمكان المرء أن يكتب قصائد من دون أن يشعر بالكثير، أو يكتشف شيئاً جديداً، بوسعك أن تنتج قصائد جميلة، شديدة البراعة، دون أن تؤمن بأي شيء، لكن بوسع هذه القصائد أن تتلف الروح، وتفسد بذرة القلب، الكتابة تصبح صناعة بدلاً من أن تكون ولادة.ليس لدي خارطة طريق أو نظاماً دقيقاً ومحكماً يساعدك في إيجاد الإشراق في قصائدك، في فنك، لكني أود أن أوضح كيف كان الأمر بالنسبة لي.في البداية، دعونا نتفق على ضرورة أن يفهم الشاعر عناصر حرفته فهماً كاملاً، ويبرع في توظيفها الإيقاع، المهارة في التخطيط والتشكيل، أهمية التكثيف والتركيز، متى يستخدم القافية ومتى لا يستخدمها، لكن في الوقت نفسه، علينا أن نسلم أن الحرفة لا يجب أن تصبح هي محتوى القصيدة، لا يجب أن تصبح غاية بذاتها، ينبغي للحرفة أن تخدم، قبل كل شيء، في توصيل ما يحاول الشاعر أن يقوله للقارئ، وفي توصيل المشاعر أو المكتشفات إليه بأقل الخسائر الممكنة.الشاعر إزرا باوند حدد الحرفة باعتبارها “وسيلة لتوصيل محتوى القصيدة.. توصيله حياً”، لكن ثمة دائماً خطورة في جعل الحرفة نفسها الشيء الذي ينبغي توصيله، على الشاعر أن تكون لديه حرفة، لكن يتوجب عليه أيضاً أن يعين موضع الجوهر، الفن الذي هو داخل القصيدة، الذي هو في مركز الشعر الأفضل.ثمة عنصران في “إيجاد” قصيدة اكتشاف الموضوع وتعيين موضع التفاصيل الملموسة، والصور التي منها تنبني القصائد، في هذا الاقتراح، أنا لا أقصد ضرورة أن يكون الموضوع هو فكرة القصيدة ومضمونها، عوضاً عن ذلك، أنا أشير إلى إيجاد المنابع الرنانة الكامنة عميقاً بداخلك والتي تساعد تلك الموضوعات والأفكار حين توضع في القصائد.في شعري أستحضر عناصر من عالمي الوضاء وأنا أكتب عن الحب أو عن نيكاراغوا أو عن الآلهة في أرض اليونان الصخرية، مثلما يتردد صدى الجزر اليونانية، التي عشت فيها 5 سنوات تقريباً، في القصائد التي أكتبها الآن عن مأوى النسوة المضطهدات، اللواتي تعرضن للعنف وسوء المعاملة، في مانهاتن، أو عن إخفاق الزيجات في نيو إنجلند، لكن ليس على نحو مباشر، إنها حاضرة كماهيات، إنها تعمل على نحو غير مرئي كما الطاقة، المرادفات، وسائل الاختبار، التمائم، البذرة المدفونة، المستودعات، والمواد الحفازة، إنها تعمل في المستوى المولد من القصيدة لتلقيح وإخصاب الحاضر.إن منابعك الرنانة ستكون مختلفة عن منبعي، ومختلفة عن تلك المحيطة بك، قد تكون حياتك العائلية الطويلة، غضبك السياسي، غرامك ونشاطك الجنسي، مخاوفك وأسرارك، هويتك العِرقية، قد تكون أي شيء، ليس القصد هو ما تكونه، بل أنها لك، ملكك، خاصة بك، أياً تكن هذه المنابع أو المصادر، يتعين عليك أن تفتش عنها وتمسك بها وتطعم قصائدك بها، ليس بالضرورة كنقاط من موضوع عام، أو كموضوعات أو ثيمات، بل بوصفها القوة الحيوية التي تغذي قصائدك. ما إن تكتشف هذا المصدر أو المنبع حتى يتوجب عليك أن تجد الصور والتفاصيل الملموسة لجعل قصائدك تبدو مرئية وفعالة، هذه الصور والتفاصيل تدعم القصيدة من الخارج، وأيضاً تساعد في تمييز الشعر عن النثر، إنها الطريقة التي بها نمنح قواماً لأفكار القصيدة ومشاعرها، سواء أكانت الصور الملموسة حرفية أم مجرد ملموسة ظاهرياً، كما مع المجازات والتشبيهات.إن جزءاً من فن “إيجاد” قصيدة ما هو اختيار تلك التفاصيل الملموسة التي لها طاقة وذبذبة خاصة، يبدو أن أفضل الشعراء يملكون موهبة إيجاد مثل هذه التفاصيل، ويكشفون عن نبوغ من خلال اختيارهم لعدد محدود من التفاصيل في خلق منظر طبيعي كامل، والذي يُظهر شارعاً في مدينة تحت مطر الصباح الباكر، بوسع هؤلاء الشعراء جعلنا نرى الشخص، من خلال عدد قليل من التفاصيل، بشكل أفضل مما يستطيع النثر أن يفعله بصفحات من الوصف.
970x90
970x90