كتبت ـ ياسمين صلاح:
يحكي الفيلم الوثائقي «ما وراء الصواب والخطأ»، قصة الألم في عيون ضحايا العنف والإبادات الجماعية في رواندا وأيرلندا الشمالية وفلسطين، وينشر رسالة عنوانها العريض «المصالحة الوطنية»، ويختزل الفيلم مقولته في جملة واحدة «الندم على ما فات لا بد أن يقود للتسامح والغفران».
الفيلم الذي عرضته سينما سار قبل يومين بمبادرة من المؤسسة البحرينية للمصالحة والحوار المدني، يشرح لنا وبأسلوب التوثيق والقص التاريخي، كيف تتحامل الأمم على جراحاتها وتنهض؟ بعد أن تشهد سنوات من الاقتتال الدامي بين مكوناتها على اختلاف الدين أو المذهب أو العرق أو الثقافة.
يقول مؤسس «الحوار المدني» سهيل القصيبي في كلمته قبيل عرض الفيلم «هدفنا التأسيس للمصالحة بين الأطراف البحرينية ولمّ شملها، وتيسير محاور الحوار المرتقب، وتوجيه طاقات الشباب من سلبية تستغل بالدمار والتخريب إلى طاقات إيجابية تستهدف خير المجتمع وصالحه العام».
تبدأ رحلة الـ80 دقيقة للفيلم بصرخات ألم تشع بعيون ضحايا العنف والإبادات الجماعية من رواندا إلى أيرلندا الشمالية وفلسطين محل تصوير الفيلم، وتنحو إلى هدفها المنشود «العدل والغفران».
في الفيلم الذي كلف إنتاجه أكثر من 1,5 مليون دولار بقيادة المخرجة الهندية الأصل ليكا سينغ، تخرج إلى النور رسالة عنوانها ندم يقود بدوره للغفران والمصالحة الاجتماعية.
فبعد أن قضت المخرجة 4 سنوات تلملم الأشلاء المبعثرة لأبطال فيلمها وتضمد جراحهم، فوق أنقاض جثث وقعوا ضحية مجرمين سفاحين مغرمين بسفك الدماء، حتى خرجت بهذا الفيلم.
لم تتردد ليكا وطاقم تصويرها المكون من قرابة 34 شخصاً في الذهاب إلى رواندا، والوقوف على أنقاض 40 سنة من الحروب الدامية هناك، في مشاهد ملأها الحزن والحسرة على بيوت كانت تعج بالدفء والفرح رغم فقر سكان، وتحولت على أيدي القتلة إلى مشهد سيموغرافي يفسر معنى عواقب الجرائم الوخيمة بكل تفاصيله.
ويركز التصوير في «المقابر» وبجانبها أوراق البردي الدالة على مساندة آبائهم وأهاليهم لهم حتى بعد الموت، وإن لم تكفِ صورة المقابر للتعبير عن مكنون حزن البلدة، فإن لقطات قصيرة وسريعة لأطفال فقدوا أجزاء من أجسادهم الغضة في تفجيرات أو غارات، كانت كفيلة بجعلنا نفقد شهيتنا للحياة.
وفي محاولة لإيصال المغزى من وراء كل قصة مسرودة، وإشعال شمعة في درب العنف المظلم الطويل، تجمع المخرجة المجرمين بضحاياهم في حقل واحد، يعملون سوياً على إعادة إحياء الأنقاض وتحويلها لبيوت دافئة كرة أخرى.
ولن تكف أعين المشاهد العربي عن البكاء حين يرى ما تبقى من فلسطين في تصوير نقل صورة واقعية حية لآثار العدوان الإسرائيلي على أراضيها، وحز جبهتها بجدار عقيم لم يقف رغم متانته في وجه أبناء فلسطين وهم يدافعون عن حقوقهم المسلوبة بعزم لا يلين ولا يقهر.
وتركز المخرجة على إظهار الحياة الخفية لأهالي شهداء الأرض المحتلة، تقتطف جزءاً من ذكرياتهم وألعابهم المبعثرة في أرجاء المنزل كما لو كانوا أحياء يرزقون، وفي لقطات أبدعت المخرجة في توظيفها قريبة ظهرت تجاعيد جباه ذوي القتلى، إثر ليالٍ من الحزن المستمر قضوها حزناً على أعزاء ذهبوا ولن يعودوا أبداً، دون أن تغفل عن الإيحاء بنهاية كل قصة أن التسامح أساس العدل.
في أيرلندا الشمالية كما يصورها الفيلم، تزهو شاشة العرض بألوان مبهجة وزهور متفتحة تحمل رسالة تسامح وعفو بين طيات أوراقها الساكنة.. منازل ضحايا أعمال الإرهاب والغزوات البريطانية ماثلة، وبنقلات سريعة بينها وبين لقطات مقربة على ملامح ضحايا يسردون قصصهم الحزينة، يظهر الفرق جلياً بين جمال التسامح وبشاعة الغضب والرغبة الدائمة في الانتقام.
يرسم الفيلم ـ رغم مرارته ـ الابتسامة على وجه مشاهديه، في لقطة تجمع زخات المطر المتساقطة على أنقاض بيوت مهدمة قوضتها الحروب، وأيادٍ مجرمة آثمة ترتجف ندماً على ما ارتبكت من فضائع، حاملة رسالة بسيطة لكل شعب فرقته الخلافات السياسية والاجتماعية «كلنا بشر نختلف وربما نتقاتل وأخيراً نندم ونغفر ونسامح».