قصة قصيرة ـ جعفر الديري:
دار الرجل ثلاث دورات على العمارة المتاخمة للشارع العام، ثم رجع لشقته في الطابق الأول وقد انتفخت أوداجه من الغضب، فتح جميع النوافذ، ثم أخرج علبة السجائر، وارتمى على الكنبة الكالحة اللون، وراح يدخن في نفاذ صبر.
- يجب علينا أن نغير هذه الشقة.. إنها وباء!.
كانت زوجته ترضع طفلها، فابتسمت في لامبالاة.
- وأين تريدنا أن نذهب؟.
أخرج السيجارة من فمه واعتدل في جلسته.
- إلى أي مكان سوى هذه الشقة التي تشبه المخزن العفن.
- لكنك من أصر على السكن فيها... قالت المرأة لنفسها.
- يجب أن أحدث صاحب العمارة! لا يمكن أن يتركنا في علبة السردين هذه!.
تبدت الشقق الجديدة الفخمة من النافذة في الأفق البعيد، ابتسم ثم قال بمرارة.
- تأملي في تلك الشقق الرائعة، كم هو جميل لو انتقلنا إليها.
لكنها كانت تعلم أن كلماته هذه سيغيرها ليلاً، وسيحاول ما أمكنه تحقيرها في عينيها، وسيدعي أنها لا تستحق المال الذي يدفع فيها، وأنها بعيدة وباردة، وكل من فيها أنانيون، وأنها.. وأنها.
- إنها جميلة بالفعل.
أخذ نفساً عميقاً من سيجارته وقد تبدى الوجوم عليه دفعة واحدة، لو يستطيع فقط تأمين المال اللازم!.
- سأحدث صاحب العمارة الآن.
ثم خرج وعين زوجته تنظرانه بدهشة، لكنها عادت وابتسمت في مرارة، حتى لو انتقلت إلى شقة أخرى فإن جميع الشقق في هذه العمارة رطبة مليئة بالحشرات، وليس هناك من أمل في تلك الشقق الجديدة الفخمة، عدا عن أن كل دينار يصرف مجدداً محسوب هنا، وسيفتقر زوجها إليه.
لم تمض سوى 10 دقائق ووجدت زوجها يدخل الشقة تسبقه سعلته، ألقى السلام ثم ألقى بجسمه على الكنبة.
- لقد تحدثت مع صاحب العمارة
قالت في لهفة:
- وماذا قال؟.
- قال إن هناك كثيرين ينتظرون أن نخرج من شقتنا
ردت في ألم
- الوضيع
- وقال أيضاً إن المبلغ الذي ندفعه لا يشكل شيئاً بالنسبة له.
- أمر متوقع من رجل لا ضمير له.
- وقال أيضاً إنه يرأف بنا ولولا ذلك لما قبل بنا في العمارة.
- لقد تجاوز حدوده كثيراً.
ثم وقف دفعة واحدة وقد ركز عينيه في عين زوجته.
- ليس هذا هو المهم.
- ما المهم إذاً؟.
- كنت زوجته قبلي أليس كذلك؟.
بدا الانزعاج على محياها.
- لم أخف عنك ذلك.
- لكنك أخفيت عني أنك سكنت في تلك الشقق.
- وهل يفرق الأمر بالنسبة لك.
- لقد عشت معه حياة مرفهة.
اختلجت شفتيها ثم زوت بوجهها عنه.
- وماذا في ذلك؟.
- تطلعي في عيني جيداً.
ثم أمسك بذقنها وأدار برأسها إليه.
- كان يجب عليك أن تخبريني بذلك.
تدافعت دموعها بغزارة، وتحول المكان إلى ما يشبه سفينة في عرض البحر.
- أتشك في حبي لك؟.
- أبداً.
- فلماذا تسأل إذاً؟!.
- لقد عشت معه حياة مرفهة!.
- أقسم لك أني من اختار الطلاق.
صاح بنفاذ صبر.
- فماذا وجدت في لترتبطي بي؟.
صاحت بانفعال.
- وجدت فيك ما لم أجده في غيرك، وجدت فيك الطيبة والحنان، أنتم هكذا دائماً تحسبون أن كل ما يشغل المرأة المال، لكنها لو وجدت من يرعاها لفضلت عليه أغنى الأغنياء.
ثم تراجعت إلى الكرسي، وأخذت في البكاء بحرقة، أوقفت الرجل كالتمثال لعدة دقائق حتى انطفأ آخر رمق في السيجارة، وارتمى رمادها على الأرض.
تقدم منها وأمسك برأسها بحنان، ثم طبع على وجهه ابتسامة حزينة.
- لكني فقير
رفعت رأسها والدموع لاتزال في عينيها.
- أنت أغنى عندي من كل من عرفت.
- ستظلين طوال عمرك في هذه الشقة القديمة.
- إن قلبك أكبر من كل شقة يعرضها الرجل اللئيم.
أمسك براحتيها ثم طبع عليها قبلة.