كتب ـ أحمد الجناحي وياسمين صلاح:
لامست مسرحية «تعالوا ننتظر» الحد الفاصل بين المقدسات والأساطير، طرحت موضوعاً في غاية الإشكالية والتعقيد، أخذت بيد المتلقي خطوة خطوة، سردت على مسامعه تفاصيل حكاية يعرفها حق المعرفة، عاينها وعاشها مراراً، دون أن يتنبه للحقيقة الصادمة في ثناياها.
أراد المخرج طاهر محسن والمؤلف خليفة العريفي أن يقدما لجمهور شغوف قصة قديمة وجديدة كل الجدة، بحبكة تتشابك أطرافها لتقول في نهاية العرض كلمة واحدة فقط «الحكمة»، وبها فقط يمايز الإنسان بين مقدس لا يمس، وبين وهم باطل يقبل المناقشة والتفنيد وتطلبه الضرورة الحياتية.
بالحوار الدائر على ألسنة أبطال المسرحية، بتفاصيل حكاية العرض، بالكلام المخبأ بين السطور، بالشرح حيناً وبالإيماءة أحياناً، همست مسرحية «تعالوا ننتظر» في آذاننا جميعاً «لا جدوى من انتظار ما لا يأتي أبداً».
لم يعتد جمهور مسرح الصالة الثقافية على عرض مماثل، هنا وقبل يومين شاهدوا عرضاً مختلفاً استفز «المحصن» بدواخلهم، كانت دعوة لتفكير مغاير، تمحي فيها الحدود، وتسمى الأشياء بمسمياتها، وتزول ترسبات الخرافة والأساطير وأحلام الأولين.
إجمالاً لم يبتعد العرض عن عادة قديمة لدى البعض في زيارة جزيرة النبيه صالح وسواها من الأضرحة والمقامات.
وكانت فكرة وراثة العادات والاعتقادات جيلاً بعد جيل حاضرة في كل فقرات العرض، وكيف أن الناس يرثون عاداتهم دون تفكير فيها ودون فتح باب النقاش عن مدى صحتها أو بطلانها.
مع وقع الدفوف والرؤوس المتمايلة على نغم الآهات، عالج العرض «أمراض» المجتمع، كشف حقيقة «الانتظار الزائف»، الانتظار الذي حدد حدوداً ووضع قيوداً كبلت أيدينا دهوراً وهي غير موجودة وغير منظورة أصلاً، مجرد وهم يراكم وهماً، وخرافة تولد خرافات، وأسطورة تخلق أساطير.
في انتظار ما لا يأتي أبداً، وفي مقاربة لحقيقة يعرفها الجميع وينكرونها فقط لكونها «مقدسة» ومحمية، تجاوز عرض «تعالوا ننتظر» الخط الأحمر «الوهمي»، هز أحد أضلع «المثلث المقدس»، اختار الصدام مع مجتمع يؤمن بالمسلمات الحقيقي منها والأسطوري، وقدم ترياقاً شافياً لمرض اسمه العريض «الضريح».
تناقضات الحياة والصراع بين ما يمليه العقل من درس وخبرات، وبين ما ورثناه عن الآباء والأجداد وحفظناه عن ظهر قلب، حاول العرض تحريرنا، وهنا كان الصدام والعراك بالأيدي حتمياً مع مأسوري العادة والتقليد.
مع سخونة وجبة قدمها العرض تحرق الأصابع، لم يغفل مخرج العمل عن ضرورات مكملات العرض المسرحي، وكانت المؤثرات السمعية والبصرية من إضاءة وموسيقى وديكور، جزءاً من الحكاية الأصلية، منحت المسرحية نكهتها المميزة، قاطعت التفاصيل وشابكتها وبالمحصلة كان الجمهور أمام وجبة دسمة لا تمحى من الذاكرة.
قدم العرض كل أساليب التشويق المسرحي، وصل بجمهوره مراراً للذروة ونزل بهم لقعر وادي سحيق، ترك اللوحة ناقصة وتحتاج لضربة ريشة واحدة تلك تركها للجمهور بعد أن حدد له اللون المفضل، شعر الجمهور حقاً أن العرض يمسه ويخصه، وهو بطل من أبطاله بشكل من الأشكال.
لعب العرض على الإشكالية القائمة بين حرية المرأة وأهمية الاحتفاظ بعادات وتقاليد رسمت علاقاتها الاجتماعية على مر العصور، ولامس القضية من جوانبها المختلفة، وقدم صورة يمكن أن تشكل طريقاً يمكن سلوكه.
لم يغفل مخرج العمل عن اللمسات الفكاهية في العرض، نثرها بحسه الإخراجي هنا وهناك، دون إفلات خيوط اللعبة الأساسية «أهمية الخلاص من المعتقدات الزائفة»، فكأن التناقض مسيطر أيضاً على المسرحية نفسها، وليس مقتصراً فقط على رغبة الشعب في التحرر.
جرأة العرض
مخرج المسرحية طاهر محسن قال «هناك الكثير من العادات والموروثات لا تتغير على مر الأزمان، دائما ما نتوارثها دون التفكير أو حتى فتح باب النقاش حولها، المســـــرحيـة عـــالجتهــــــا بـــــأسلـــوب التشـويق» لافتاً إلـــى أن العــرض يجيب على بعض الأسئلة على مستوى الوجود وتكوين الإنسان.
وأضـــــــاف أن هدف العرض بشكل عام التغيير على مستوى الحركة وأداء الممثلين وشكل العرض والفكرة المطروحة مردفاً «بما أن هناك الكثير من العادات والمعتقدات ورثناها دون تفكير، كل هذه القوانين يحاول العرض تكسيرها وتكسير نمط تفكيرنا فيها وإعادة تقييمها، حتى الخطوط الحمراء الأخرى تجرأ العرض وتعداها».
كـاتــب النـــص خليفــــة العريفي يقول «الفكرة النص جديدة بالنسبة للبحرين وعموم المنطقة الخليجية، لكن في الأساس فكرة الانتظار ليست جديدة، طرحتها «اليونيسكو» منذ 50 سنة في مسرحية «في انتظار جودو».
ويلفت «الدور الذي أديته بالمسرحية كأستاذ فيزيـــاء بالجامعـــة، يعكس دور الشخص العلماني الذي يدرس العلوم ويعرف تكوين الطبيعة، ولكن مع استمرار حضوره للمكان الخطأ مع الناس ذات المعتقدات الخاطئة يحصل له ما يسمونه في علم النفــس الاستهواء، ويصبح جزءاً من جمهور يؤمن بالخرافة وينتظر ما لا يأتي».