دعاه زملاء العمل لسهرة في المتنزه المعروف، وكان الرجل أرملاً منذ أعوام ثلاثة. كان قد تقدم في السن، ومع ما ألقت الشدائد عليه من آثار، بدى أكبر من سنه بكثير، خاصة مع كرشه المستديرة والبارزة، والبياض البغيض في عينه اليمنى، لقد بدا لنفسه وهو يطالع شكله في المرآة كأنه ابن ستين وليس رجلاً بالكاد يقترب من الأربعين.ابتسم ساخراً، ثم شبك ذراعيه، وألقى بجسمه الضخم على الكرسي، وأسند خديه إلى كفيه الكبيرين الصلبين اللذين يحفظان تاريخاً طويلاً من المشقة والجري وراء لقمة العيش، انتهى عند وزارة خدمية. وراحت عيناه تتأملان في الغرفة النظيفة الواسعة، حتى حطتا على الصورة الوحيدة المعلقة على الجدار، أخذ يتأملها وفمه لا يفتر عن ذكر الله تعالى، سائلاً إياه المغفرة والرحمة لزوجته، وإن كان مؤمناً في قرارة نفسه أنها في الجنة، المرأة التي صبرت على ما أصابها، وتحملت عجزه وشدة العمليات الجراحية التي أجرتها، سيكون الله تعالى أرأف بها، وهو الذي وعد المتقين بالمغفرة والرحمة، لكنه وهو الوحيد في هذا العالم يحتاج إلى الرحمة أكثر منها، إذ ليس أحد من أصدقاء الأمس يسأل عنه، ليس سوى زملاء العمل. تطلع في جهاز الآيفون، فوجد أن الساعة لم تجاوز السادسة، بينما الموعد في الثامنة، والمتنزه قريب، يمكنه الذهاب إليه مشياً على الأقدام. ضبط المنبه على السابعة والثلث، وقام متثاقلاً ونزع الجاكتة، ثم ألقى بجسمه على الفراش، وراحت عيناه تتأملان السقف. استيقظ لكن ليس على صوت المنبه، بل على صراخ زوجة جاره، لقد عادت من السفر وعاد معها الإزعاج، ويجب عليه مجدداً أن يتحمل صوتها المنكر!. تطلع في جهاز الآيفون، فوجد الساعة لا تتعدى السابعة، قام من فراشه، وصنع لنفسه كوباً من الشاي، وجلس عند الطاولة، وأخذ في قراءة الكتاب، حتى سمع صوت المنبه. ارتدى الجاكتة وتعطر وفتح باب الشقة، حين وجد جاره أمامه، سارع وأغلق الباب، حامداً الله تعالى أن الجار كان مولياً إياه ظهره، كان أشبه بقط كلما دفعته عنك تزلف إليك! سيصم أذنيه بحديثه عن زوجته ومشاكلها، وسيقول له اصبر إن الله مع الصابرين، وسيبكي ويبث شكواه، حتى يخنقه بحديثه المعاد، وسيقول له إن الرجل القوي لا يبكي، وسيحاول الإفلات منه، وسيمسك بذراعه متوسلاً إياه أن يستمع إليه، وسيضطر إلى نزع يده بقوة معتذراً له بأمر يشغله!. وابتسم ساخراً، لكن من نفسه هذه المرة، إن من يراه في هذه الحال، يحسبه مديناً بالمال، يحاول الفرار من مدينه، وليس من جار ثقيل الظل. وأخذ بانتظار ذهاب الجار، حتى إذا اطمأن فتح باب الشقة، ونزل من على السلم، إلى الشارع العام. كانت السماء صافية والهواء عليل، وطقس مثل هذا طالما أطرب نفسه، فإن العزلة التي اختارها منذ وفاة زوجته منحته الكثير، لا شك أنها أخذت منه مباهج كثيرة، لكنها أيضاً جنبته كثيراً من الآلام، وإذ كان مخلوقاً طيب القلب، شديد الحساسية، انساق إلى العزلة عن قناعة، وتذكر حينها السنة الصعبة التي مرضت فيها زوجته وفقد فيها عمله، لقد طرق أبوابهم واحداً واحداً، فلم يجد أحداً يسارع لنجدته!. قال لنفسه: ما نفع خاّن في السراء لا تجدهم في الضراء!، وشعر بمرارة في حلقة، حتى أنه بصق على الأرض لشدة تأثره، لكن مرأى طفلة صغيرة تقترب ويدها في يد أمها، غير مزاجه، فبادلها الابتسام. كان قد وصل إلى الخيمة المشار إليها، ومد يده ليفتح بابها، حين غزا وجهه العبوس كأشد ما يكون، ترك يده تسقط بلا مبالاة، وقفل راجعاً وهو يردّد: ما نفع خلان في السراء لا تجدهم في الضراء!.