بقلم- جعفر الديري
كم هي حبيبة هذه الأشياء لقلبه، وكم هو مؤلم أن يفارقها بعد سنوات طويلة في صحبتها، وأن يتغير معها الطقس والطعم والأشخاص أيضاً. عبثاً يبحث عن مجلس آخر يقضي فيه ما تبقى من شيخوخته، فلا أحد من أصدقاء الأمس على قيد الحياة سواه، ولا أياً من جيل أبنائه يشرع أبواب بيته!.
كان هذا المخزن عجيب غريب، ليس هناك شيء لن تجده فيه، كان مصدر سعادة للخلان والأقارب، وكان الرئة التي تتنفس القرية من خلالها. لقد شهد جيله وجيل أبيه، أما الأبناء! وأحس بغصة في حلقه، ورغبة عارمة في البكاء، لكنه خجل من الشباب المتجمعين حول سلة الرطب، وإذ حاول أن يقف بسرعة غافلاً عن ظهره المقوس، أحس بألم اضطره للتأوه.
سارع الشباب إليه، وساعدوه حتى استلقى على ظهره، وفيما عيناه تتأملان سقف المخزن، بدأت دقات قلبه بالهدوء، حتى غفت عيناه، لكنه عندما فتحهما لم يجد سوى ابنيه موسى وصابر، وبدلاً من أن يقابل اهتمامهما، زوى بوجهه بعيداً.
قال موسى في نفاذ صبر:
- أخبرتك أن أباك لا يرغب برؤيتنا
- انتظر ريثما نطمئن عليه
وجاء صوته مغضباً:
- هذا كل ما قدرت عليه؟!
- وماذا نفعل وفمك لا يكف عن سلقنا؟
- أما تستحي تخاطبني بهذه الطريقة؟
وبدرت من ابنه حركة وشت بضيقه، ثم غادر المكان.
أمّا صابر فكان ينظر إلى الأرض، وبعد برهة رفع ناظريه لأبيه.
- هلا خففت عن نفسك يا أبي؟.
- وماذا يهمك من أمري؟.
- لماذا كل ذلك؟.
- لماذا كل ذلك؟ ألا تشعرون بالخجل؟.
- أرجوك خذ الموضوع بهدوء أبي.
- هذا المكان عمري يا ولدي؟.
- لكنك تقدمت في السن ومن حقك أن تستريح!.
- وهل طلبت أكثر من ذلك؟.
واعتصم ولده بالصمت طويلاً، ثم غادر المكان دون أن يلقي نظرة على أبيه.
وإذ أحس أنه لوحده دون أبناء أو أصدقاء ولا حتى زوجة بكى، محاولاً ما وسعته الحيلة أن تقفز الدموع إلى عينيه، لكنها تأبت عليه، تحامل على نفسه وأسند ظهره إلى الجدار، وراحت عيناه تتأملان في كل شبر في المكان، حتى حطتا على منفضة السجائر.. ترى كم عدد السجائر التي احتوتها، وكم عدد الخلان الذين اجتمعوا حولها؟! كانت السبب في طرده من الشركة الضخمة، حين اتهمه مسؤوله الأمريكي بسرقتها. وحيث تقرر طرده، سارع وأخفاها عن الأعين، وبعد سبعة أعوام، ذهب لرؤية مسؤوله، وألقاها عليه، معتزاً بالمخزن الكبير الذي أنشأه بكده وتعبه، فكفاه العمل مع أمثاله من المسؤولين.
وانتابته نوبة فرح مدهشة، وهز رأسه طرباً وقال:
- ما رأيك بالمخزن يا حاج محمد؟.
ثم حرك يده بعصبية.
- بل سيكون أعجوبة في القرية
ثم دخل شاب، وألقى السلام، لكن الحاج لم يرد عليه.
- لقد بنيته بجهدي وعرقي
- أريد حبلاً متيناً يا حاج صالح
- عندما أتقدم في السن سيعنى به أبنائي
وتقدم الشاب حتى وضع يده على كتفه.
- حاج صالح أتشكو من شيء؟.
- بلى.. سيحرص عليه أبنائي
- حاج صالح أتسمعني؟.
- أرجوك لا تقس أولادك بأولادي، إنهم مهذبون
- لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
- أؤكد لك أنهم لن يتركوا هذا المخزن أبداً
ثم أسرع الشاب، وجاء بعد خمس دقائق بصحبة أبناء الحاج صالح، تقدموا من أبيهم، لكنه لم يعرفهم، رفعوه عن الأرض ومضوا به وفمه يقول:
- لقد أخبرتك أن أبنائي لن يفرطوا في ثمرة عمري، فلا تعد لمثل هذا الحديث.
970x90
970x90