كتب ـ أمين صالح:
في متابعة لأعمال بونويل التي أخرجها في المكسيك، منذ عام 1953 وما بعدها، يبرز فيلم «مرتفعات ويذرنج» 1953، المأخوذ عن رواية أميلي برونتي، ويقول عنها بونويل «أحببت أميلي برونتي.. كل السورياليين كانوا مغرمين بها.. مرتفعات ويذرنج، بالنسبة لنا، كانت قصة حب عظيمة.. رغبت في تحويلها إلى فيلم عام 1930 مع خلفية موسيقية لفاجنر، وعندما صورته في المكسيك، بدا كمفارقة تاريخية، تحية وجدانية موجهة إلى مرحلة شبابي». (مجلة نيويورك تايمز، 11 سبتمبر 1973).
مغامرات روبنسون كروزو 1954، بونويل هنا كان أميناً إلى حد بعيد لرواية دانييل ديفو «التي تخدم كمرآة للسياسة البريطانية في القرنين 17 و18»، ملتزماً بالأحداث الرئيسة، غرق السفينة، وصول كروزو إلى جزيرة مهجورة تقريباً، محاولته بناء حياة لنفسه، رؤيته لآكلي لحوم البشر وإنقاذ الزنجي فرايدي منهم، محاولته تلقين الزنجي التعاليم المسيحية عنوة، وصول القراصنة إلى الجزيرة، رحيله عن الجزيرة.
يسجل بونويل الحياة اليومية لكروزو على الجزيرة بشكل مباشر وبسيط، مركزاً على مظاهر الوحدة والألم التي يعيشها شخص معزول عن العالم، غير قادر على إقامة أي اتصال مع البشر، ومكبوت جنسياً، إحساسه بالعزلة يتعمق مع مرور الوقت، وكذلك يأسه، والسيناريو من خلال صوت الراوي، يؤكد على نحو متكرر حاجة الفرد الأساسية لأناس آخرين.
الفيلم ناطق باللغة الإنجليزية، أدى فيه دور كروزو الممثل الأمريكي دان أوهرلي.
لكن ما الذي جذبه إلى هذه الرواية الإنجليزية الكلاسيكية، التي ألفها من كان يُعتبر الأب المؤسس للواقعية الأدبية دانييل ديفو؟.
ربما ثيمة المنفى، وهي الثيمة الجذابة لدى العديد من الإسبان اليساريين المنفيين، وكان بونويل يعيشها فعلياً، في سنوات حكم فرانكو بعد الحرب العالمية الثانية.
يقول بونويل «هذا فيلم أردت أن أحققه فعلاً، إنه يختلف عن أفلام هوليوود، لا يحتوي شيئاً هوليوودياً، بدأت مع كروزو على الجزيرة، لا سفينة ولا حطام.. صورته وحيداً في 7 بكرات، ثم مع فرايدي في 3 بكرات، وقرب النهاية يأتي القراصنة كما في الرواية.. اكتفيت بمراقبة كروزو وهو يبني بيته، يصنع القدور، ويزرع الحنطة.. إنه فيلم عن صراع الإنسان مع الطبيعة.. عن العزلة، عن اليأس.. لم أحب الرواية، لكنني أحببت شخصية كروزو».
«النهر والموت» 1954، الفيلم مأخوذ عن رواية ميجيل ألفاريز أكوستا، كتب له السيناريو بونويل ولويس ألكوريزا، وتدور أحداثه حول حالة عداء دموي بين أجيال من الذكور ينتمون إلى عائلتين في قرية مكسيكية «يتحكم فيها الموتى»، حيث التناحر الدموي، دفاعاً عن الشرف، يفضي إلى مقتل العديد من أفراد العائلتين.
يقول بونويل «في الفيلم، رجل يلقى مصرعه، أفراد عائلته يحملون جثته من بيت إلى بيت لكي يودع الميت كل رفاقه وجيرانه، أخيراً يتوقفون عند بيت القاتل، ورغم مناشداتهم، الباب يظل مغلقاً بعناد».
أخيراً ينجح طالب طب شاب متنور، ينتمي إلى إحدى العائلتين، في تحقيق المصالحة بينهم، بعد جهود مضنية ينال خلالها ازدراء خصومه ووالدته، على حد سواء، بسبب موقفه الداعي إلى نبذ العنف، هذا الموقف الذي يعد جبناً.
ذات مرة كتب بونويل عن المكسيك «يمكن للمرء أن يتعرض للقتل هنا بسبب خطأ تافه جداً، كأن ينظر شزراً، أو لأن الآخر لديه رغبة في القتل».
الفيلم يتألف من ثلاثة أقسام مقدمة، حيث قرية مكسيكية متواضعة يضطرب سكونها مع تفجر العداء والضغينة بين رجلين وعائلتيهما، والثاني عبارة عن فلاش باك طويل فيه يسرد طالب الطب مجرى العداء كاشفاً عن عمليات الثأر المتبادلة.. والثالث عبارة عن ملحق فيه يعود طالب الطب إلى قريته من العاصمة ليحل الأزمة، وهناك نهر فسيح على حافة القرية يتعين على الرجل، وفق التقاليد، أن يعبره ليلازم الغابة على الجانب الآخر بعد قتله لأحد أفراد العائلة المعادية.. النهر العابق بالموت مظلم وكثير الضباب.
يقول بونويل «هو فيلم عن الموت على الطريقة المكسيكية.. الموت السهل.. حين يموت إنسان ما، يمتلئ المكان بالناس الذين يدخنون ويتبادلون الأنخاب.. الحياة شيء تافه جداً، والموت بالكاد يؤخذ بعين الاعتبار.. الفيلم يحتوي على سبع حالات وفاة، أربع جنازات، إضافة إلى الصلوات والمراثي».
حياة أرشيبالدو الإجرامية 1955، الترجمة الحرفية لعنوان الفيلم باللغة الإسبانية هي «بروفة لجريمة»، بطل الفيلم أرشيبالدو دي لا كروز، خزاف دائم التذكر لطفولته الأرستقراطية عبر اتصاله الوجداني بالماضي.
مضطرب أخلاقياً وجنسياً، أسير النظرة المسيحية للطبيعة البشرية، مأخوذ بسيقان النساء منذ أن رأى في طفولته ساقي مربيته وهي جثة هامدة بفعل رصاصة طائشة اخترقت النافذة أثناء مواجهات مسلحة في الشارع، ويرى في مقتل المربية تحقيقاً لأمنيته بأن تزال هي من حياته، وهذا يمنحه قناعة أنه يملك قوى خارقة.
يسعى إلى بلوغ حالة من اللذة توفرها لحظة غريبة يتداخل فيها الموت والمتعة الحسية والتحقق المطلق للرغبة، وهو مخلص لهواجسه واستحواذاته ورغباته الأعمق، ويحاول أن يعيش تخيلاته الجنسية الأكثر قتامة.
الفيلم في بنائه، يتمحور حول اعتراف أرشيبالدو للمدعي العام بأربع جرائم قتل كان ينوي أو يرغب في ارتكابها لكن الظروف لم تخدمه، رغم أن النسوة الأربع اللواتي كن هدفاً لخططه الإجرامية يلقين مصرعهن في ظروف غامضة، لا علاقة للبطل بها، لا من الناحية القانونية ولا الأخلاقية، بل هي جرائم تتصل بالحرب، الانتحار، الغيرة العاطفية، والصدفة.
ميول بونويل السوريالية، روح الدعابة، القوة المحررة للحلم والرغبة.. تجد أصداءها المؤثرة في هذا الفيلم.