كتب - عبدالرحمن صالح الدوسري:
محمد الحمادي من أبناء منطقة الحورة، عاش وترعرع في شوارعها وأزقتها المتربة، تخلى عنه والده وهو ابن الخامسة، أم والدته فلم تتخل عنه يوماً وتكنى باسمها.
الحمادي نجم منتخب «البرازيل»، أو بالأحرى فريق شعبي يرتدي الفانيلات الصفراء ويكنة بـ»البرازيل»، وبطل متخيل لفيلم «الحدود» فلا تركيا تدخله حدودها ولا بلغاريا.
في مباراة ناديه «العربي» مع الإسماعيلي المصري، أوكل إليه المدرب مهمة مراقبة اللاعب علي بو جريشة، النتيجة كانت أن سجل اللاعب هدفين، ثم خرج من المباراة مصاباً برفسة بوجهه وجهها الحمادي.
ذكريات الصبا
محمد أحمد يوسف الكنية محمد الحمادي، تعود التسمية لأيام الطفولة، تطور الاسم من محمد إلى حمودي ثم إلى حمادي، اسم الوالد أحمد يوسف السركال «عشت حياتي كلها مع الوالدة لأن الوالد تخلى عني وأنا بسن الخامسة، بينما لم تتخل عني الوالدة يوماً واحداً طوال حياتها، فأصبحت كل شيء في حياتي بفريج الحورة وبالذات لدى ولادتي بالمستشفى الأمريكي بتاريخ 8 ديسمبر 1950، حتى إني تخليت عن لقب الوالد ونسبت اسمي على نسب الوالدة وكنيت محمد الحمادي، وذلك مذكور بسجلات المستشفى، في دفتر غلافه أسود سميك يطلق عليه دفتر بوروبية».
ويتذكر الحمادي أن الحوامل يضعن مواليدهن إبان تلك الفترة في البيوت عن طريق القابلة «إلا أنا وقليلون آخرون، لأن الوالدة خلال فترة الولادة شعرت بآلام استلزمت نقلها إلى المستشفى.. كانت طفولة جميلة وكل الناس في المنطقة والمناطق المجاورة كأنهم أسرة واحدة، البيوت مفتوحة على بعضها ونادراً ما يغلق باب قبل آخر الليل كما هو حاصل حالياً في البيت العود بيت العائلة بالحورة الذي مازال على نفس الأسلوب حتى (دبة) الماء توضع إلى الآن كل صباح أمام الباب ليشرب منها عابرو السبيل».
البداية مع «البرازيل»
لعب الحمادي مع أقرانه كل الألعاب الشعبية مثل التيلة، الدوامة، القلينة والماطوع، الصعقير، الخشيشة وكرة الطائرة وكرة القدم «شكلنا فريقاً خلعنا عليه اسمه البرازيل، وكان أنور ياسين كابتن الفريق ومن اللاعبين محمد القطان، المرحوم بدر بوشقر، عزيز بوشقر، كنا نشتري الفانيلات البيضاء الرخيصة ونصبغها بالأصفر، وعندما قرر محمد عبدالملك تدريب فريق العربي تقريباً سنة 1963 ـ 1964 طلب منا الاندماج مع فريق أبناء الشمال شرق الحورة، لأننا كنا في غرب الحورة وصار الدمج بين الشرق والغرب، لتأسيس فريق للشباب يكون رافداً للفريق الأول، في تلك الفترة لم يكن هناك اهتمام وتركيز للفرق السنية وأعتقد أن محمد عبدالملك كان من الرواد في ذلك الوقت، وعمل على تطوير الفريق على أساس علمي، وحسب الإمكانات المتاحة، واستطاع أن يؤسس فريقاً ينافس الفرق الكبيرة في تلك الفترة مثل النسور والأهلي والمحرق والرفاع الغربي والرفاع الشرقي والتاج «المنامة» وسواها».
ويصف مشوار الفريق مع مدربه الجديد محمد عبدالملك «أخذ يركز على اللياقة البدنية والمهارات الفردية والجماعية، حتى إننا كنا نذهب بالباص إلى الرفاع ونرجع هرولة إلى ملعب القضيبية أو من شارع البديع، وأسس علاقة قوية بين اللاعبين في الملعب وخارجه، والاحترام كان سيد الموقف بين المدرب واللاعبين، كان قدوة لكل اللاعبين ومن خلال هذا الاحترام تولد الاحترام للآخرين من جمهور وحكم، حتى اللاعب الخصم داخل الملعب وخارجه».
ويسرد الحمادي أسماء اللاعبين ممن لعب معهم في نادي العربي «الجيل الأول منهم حسن يوسف، ماجد فرج، حسن أحمد، محمد مبارك، محمد صالح، محمد الأنصاري، فاروق محمد صالح، فواز وخليل الزياني، عيسى ماجد وآخرون، ومن بعدهم أنور ياسين، بدر ملك، محمد أحمد، محمد صالح، ومن بعدهم محمد الحمادي، عبدالرحمن صالح الدوسري، محمد مهنا، محمد بوقيس، محمد لوري، عبدالرحيم السيد، جليل باقي وغيرهم، ثم جاء جيل فؤاد بوشقر، محمد الزياني، بدر ناصر، حمد نايم، فيصل رشد، يوسف السبيعي، وكنا الفريق الوحيد في البحرين والخليج والكثير من الدول الذي يحضر معه لاعباً من فريق الناشئين إلى الملعب وقت المباراة، لتشجيعه وإعطائه الحافز لتطوير نفسه كلاعب مستقبلاً».
حفلات «الكاسر» و«الطنبورة»
ويذكر محمد حمادي أيام الشباب حيث كانت توجد الكثير من بيوت سعف النخيل بعضها كان خلف «أشرف» حالياً، وبعضها الآخر خلف أسواق العوافي «كل جمعة كانت تعقد في البيوت القائمة خلف أسواق العوافي حلقات الغناء والرقص مثل الطنبورة، الليوة، الكاسر وبعض الفنون الأفريقية الأصل.. كان الناس يأتون من مناطق متعددة للمشاركة أو المشاهدة.. ينشرون الفرح والبهجة والضحكة وكان الناس يستمتعون بما يدور من أنواع الفنون والموسيقى». ويعود الحمادي للحديث عن رحلته الكروية مع النادي العربي «كان المدرب مسؤولاً عن كل صغيرة وكبيرة بالفريق من تدريب، لياقة، نفخ الكرة، حمل الشبك والكور من النادي إلى الملعب، علاج اللاعبين، حل مشاكلهم الاجتماعية والنفسية».
وما تزال صولات وجولات «العربي» حاضرة بذاكرته «على مستوى الدوري المحلي حقق إنجازات كثيرة، وتدرج من الدرجة الثالثة إلى الثانية حتى وصل إلى الأولى، وقدم مستويات ممتازة وفاز ببطولة الدوري الممتاز وكذلك الكأس، وكان الفريق عندما يفوز يدخل الحورة بالباص ويزف اللاعبين تماماً كما يزف العريس لعروسه، ويستقبل من نساء الفريج بقيادة أم الحورة (فامه) بالزغاريد والمشموم، كانت أماً عانت الكثير في تربية أبنائها والاهتمام بشؤونهم، تحلب لهم البقرة صباحاً وتذهب إلى السوق وتتسوق ليس لها فقط وإنما للبيوت الأخرى وترجع لتطبخ الغداء ثم تسهر عليهم وتسأل عنهم واحداً واحداً، كانت امرأة عن ألف امرأة كما يقولون، تهتم بأبناء الفريج جميعاً وكأنهم أبناؤها وفلذات كبدها».
ويزعم الحمادي أن الجمهور الذي كان يحضر تدريبات الفريق إبان تلك الفترة يفوق بكثير الجمهور الذي يحضر المباريات حالياً لا العكس «كان الجمهور يعرف اللاعبين واحداً واحداً، يعرفه بالاسم والكنية والصورة، وكان اللاعب محل ترحيب في كل مكان يذهب إليه، وله مكانه خاصة عند الناس، كانت الطرق الأخرى وبالذات في القرى تطلب من إدارة النادي الحضور لزيارتهم، لتبادل الأفكار والتشاور معهم ومحاولة رفع مستواهم الكروي من خلال مفهومنا البسيط للرياضة والكرة بشكل خاص.. كنا محل ترحيب في أندية القرى، وكان نادي النسور «الأهلي» أكثر نادي يستقطب جمهور القرى والأندية، وعندما برز فريقنا استطاع في فترة زمنية وجيزة أن يستقطب الكثير من المشجعين والداعمين معنوياً للفريق».
الديك الرومي بقطر
في سنة 1967 دعي «العربي» لمنازلة منتخب قطر «النادي حينها كان حديث العهد بالدرجة الأولى، وفي الدوحة شعرنا للوهلة الأولى بشيء من الاستغراب لأننا سنلعب على ملعب معشب، كنا إلى درجة من البساطة فعند العشاء في مطعم المنتزه أحضروا لنا الشوربة والخبز والزيتون، فما كان من أعضاء الفريق إلا أن بدأوا يغمسون الخبز بالشوربة على اعتبار أنها صالونة، وكنا نعتقد أن الشوربة هي الوجبة الرئيسة، ولم نكن نعرف الزيتون حينها ولم يعجبنا طعمه لأننا لم نعتد مذاقه، وكان من يقول إنه مثل الخمر، ومن قال إنه مر كالعلقم ولا يؤكل، وعندما أخبرونا أنه زيتون أخذنا نضحك لأن الزيتون عندنا هو الجوافة».
بعد ذلك حضرت على مائدة الفريق البحريني دجاجة كبيرة «أخبرونا أنها ديك رومي محشي أرزاً ولحماً، والكثير منا لم ير الديك المحشي إلا بالأفلام المصرية، ديك رومي محشي على الطاولة والشباب بطونهم منفوخة من الخبز والشوربة». ويتحدث عن الصحافة في البحرين إبان تلك الفترة «كانت الأضواء الجريدة الوحيدة في البلاد، وكل الناس يشترونها ويقرؤونها، وفيها صفحة عن أخبار الرياضة، والمباريات تنقل عبر جهاز الراديو فقط ولم تكن البحرين تعرف التلفزيون بعد، هذان هما المصدران الوحيدان عن كرة القدم واللاعبين، وعندما تنشر صورنا في الجريدة أو يكتب عنا، كنا نتمشى أمام مدرسة الحورة الثانوية للبنات، وكانت المدرسة تستقطب كل طالبات البحرين، نتوقع سلفاً أن البنات جميعهن قرأن الصحيفة وشاهدن صورنا تزين صفحاتها، كان مجرد هذا الإحساس جميلاً جداً ولا يقاوم، نتلفت يمنياً وشمالاً على وعسى أن ينظر أو تؤشر علينا أياً من الطالبات المعجبات بالنادي ولاعبيه».
المدرسة جامعة الطبقات
تخرج الحمادي من المدرسة الثانوية سنة 1968 ـ 1969 وكانت قرب القصر القديم «الضيافة « بالقضيبية، وكانت المدارس من الابتدائي إلى الإعدادي والثانوي تضم أبناء مختلف الطبقات الاجتماعية، لم تكن هناك مدارس خاصة لطبقة اجتماعية دون أخرى، إذ ترى ابن التاجر وابن الفقير كلهم في صف واحد وعلى مقعد واحد».
ويتذكر الحمادي سنوات الدراسة الإعدادية سنة 1965 وفي ذروة الأحداث «كانت الاحتجاجات والمظاهرات الطلابية تعم البحرين، خاصة مدرسة الحورة الإعدادية ومدرسة أحمد العمران الثانوية، كانت مصادمات مع الشرطة وأطلق رصاص الشوزن، كنا في أعلى المبنى نرمي الشرطة بقوارير المياه الغازية فدخلت علينا الشرطة ورفعنا أيدينا علامة الاستسلام، كنا خائفين أن نساق إلى السجن، ولكن عندما وصلنا إلى باب المدرسة طلبوا منا الذهاب إلى بيوتنا.. لم نصدق ذلك فأسرعنا جرياً إلى البيت، من بعدها أخذتني الوالدة إلى قطر خوفاً علي من السجن». في أيام الثانوية العامة كانت مادة الفلسفة وعلم النفس محببة إليه «بالمقابل كان الكثير من الطلبة لا يحبون المادة، وكان الطلبة يطلبون مني أن أضيع الدرس وندخل في نقاش عقيم، كنت أسأل مدرس الفلسفة سؤالاً ويبدأ النقاش والجدل ويضيع الدرس وفي يوم جاءنا مدرس رياضة وطلب أن يكون لباسنا الرياضي أبيض، أخبرته أني لا أستطيع أن أشتري لباساً أبيض وأنا أمارس الرياضة في النادي، ولا أحتاج إلى رياضة المدرسة أصلاً، فاضطر الأستاذ عن طريق المدرسة إلى شراء لباس كامل لكل الطلبة الذين لا يستطيعون شراء لباس يخصهم».
السينما للبرجوازيين
يصف الحمادي الحياة بتلك الفترة بـ»البسيطة» ولا تخلوا من فكر سياسي تتبع التحولات السياسية العالمية والعربية من المد القومي إلى اليساري إلى الديني «بعد انتهاء المد القومي بعد حرب 1967 جاء اليساريون، وبدأت تطفو كلمات صعبة وطويلة وتحتاج أياماً لحفظها وترديدها دون إدراك معناها الحقيقي مثل البرجوازية، البرجوازية الصغيرة، الديكتاتورية، الماركسية، واللينينية وغيرها من كلمات رنانة تعطي انطباعاً لمن يرددها أنه مثقف، وكنا نسمي هذا الشخص «ثقف» يعني متثقف، وكانت صفة البرجوازي تطلق لمن يملك سيارة خاصة لأن المفهوم اليساري يؤمن بالملكية العامة ويحرم الخاصة، كنا نرتاد السينما درجة ثالثة لقاء روبية واحدة، وفي أحد المرات دخل أحد الأصدقاء إلى «اللوج» بلكون درجة أولى بـ3 روبيات فاعتبرناه برجوازياً، لأنه تخلى عن طبقته الكادحة».
«بوجريشة» يسجل رغم الرقابة
ويقول الحمادي «في سنة 1967 ـ 1968 استقدم اتحاد الكرة المدرب المصري الراحل حمادة الشرقاوي لتدريب المنتخب الأول، وبدأ الشرقاوي فور وصوله البحرين بتأسيس 3 منتخبات للرجال والشباب والناشئين، كانت بداية العمل المبرمج في التدريب رغم بساطته، وكان الشرقاوي من أخلص وأفضل المدربين الذين مروا على المنتخب».
اهتمم الشرقاوي بالفرق الكبيرة والصغيرة، حضر تدريباتهم وجلساتهم وحاول أن يطور مستواهم سواء أكانوا لاعبين أو مدربين «من ضمن ما اختار من اللاعبين اختارني لألعب بفريق الشباب والفريق الأول، وقبل دورة الخليج حضر الفريق الإسماعيلي المصري إلى البحرين، وكان في جولة بالدول العربية بعد أن حصل على كأس أفريقيا للأندية، وضمني كلاعب أساس في المنتخب وكلفني المدرب بمهمة مراقبة اللاعب علي بوجريشة، وكان حصل على جائزة أفضل لاعب أفريقي، وهو لاعب طويل القامة يلعب باحتراف بقدمه ورأسه، طبعاً لم أستطع إيقافه إلا بعد أن رفسته بوجهه وخرج من الملعب مصاباً بعد أن سجل هدفين».
حرمان من دورة الخليج
في دورة الخليج الأولى سنة 1970 كان الحمادي لاعباً أساسياً في مباراة الافتتاح أمام قطر «كان يوم جمعة، وقبل المباراة بيوم واحد كنا جالسين على الحشيش على شكل دائرة في بلاج عوالي، وكان يوسف المالكي يجلس بجانبي، وصدفة سقطت يده على يدي وأحسست بألم شديد في إحدى أصابع يدي اليمنى، وعندما أخذت إلى مستشفى عوالي لأن المعسكر التدريبي في مدينة عوالي اتضح أنه «شلخ» بالعظم، ووضعوا نصف تجبيرة لأصبعي لذلك لم أستطع اللعب في المباراة، وكانت بمثابة الصدمة للمدرب والفريق والإدارة وهذه هي إصابتي الوحيدة طوال فترة لعبي كرة القدم».
اختير اللاعب سامي حسن عوضاً عنه «حصلت البحرين حينها على المركز الثاني بوجود 4 منتخبات هي الكويت، البحرين، السعودية، وقطر، ونظموا لنا حفله تكريم في فندق الشرق الأوسط على ما أذكر، وقدم لنا 100 دينار مكافأة وراديو ترانسستور صغير على شكل كرة دعاية من إحدى الشركات المهتمة بالمنتخب، هذا التكريم جعلني أفكر أكثر في قيمة كرة القدم في حياتي وهل تستاهل أن الواحد يضحي بصحته من أجلها والإصابات التي يمكن التعرض لها وإصابة غيره والتسبب له بعاهة جسدية، لأن لا أحد ممكن أن يهتم به وإنما يرمى في حضن والدته، هذا الإحساس جعل كرة القدم شيئاً ثانوياً بحياتي، بعد أن كانت كل شيء».
وقبل دورة الخليج كان عاطلاً عن العمل ويحمل الشهادة الثانوية العامة سنة 1968 ـ 1969 «بحثت عن عمل والوعود تنهال علي من كل حدب صوب قبل الدورة من المسؤولين بالاتحاد كالعادة، فصار عندنا اجتماع قبل الدورة مع مجلس اتحاد كرة القدم برئاسة الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة قبل أن يصبح وزيراً للداخلية، وكان حينها مديراً للهجرة والجوازات في مبنى باب البحرين، وقبل الاجتماع أخبرت المدرب حمادة الشرقاوي أن يطرح موضع حاجتي إلى العمل فوعدني خيراً، وفي الاجتماع كان الوقت يمضي وأنا أنظر إلى المدرب ولكنه لم يتكلم، وعندما سئلنا السؤال الروتيني عمن عنده مشكلة أو أي شيء يريد التحدث عنه، كنت الوحيد الذي تكلم وأخبرت الشيخ بالموضوع وأن كل مجلس الإدارة يدري به وأشرت عليهم واحداً واحداً، فاستغرب جميع اللاعبين الجرأة التي تحدثت بها أمام مجلس الإدارة علماً أني كنت أصغر اللاعبين، بعدها وعدني خيراً وبنهاية الدورة كنت أعمل في الجوازات».
نتائج السياسة
عمل الحمادي في دائرة الهجرة والجوازات لأقل من سنتين «في فبراير من سنة 1973 كنت أعمل في ميناء المنامة المرفأ المالي حالياً، وفي صباح أحد أيام فبراير كنت جالساً في مقهى شعبي أفطر في سوق المنامة، فحضر 4 رجال شرطة إلى المقهى للسؤال عني واقتادوني إلى القلعة بوزارة الداخلية، وطوال فترة الاعتقال 11 شهراً لم يسمح لي بمقابلة أي من أفراد أسرتي، وأنا كنت وحيداً لأمي، وفي أحد الأيام عندما كنت أنظر من النافذة الصغيرة الوحيدة التي تطل على مكتب السجن في القلعة شاهدت الوالدة وهي تحمل بعض الأغراض كي تسلمها إلى ضابط السجن، توقف الدم في عروقي ولم أستطع أن أتحرك أو أنطق».
وبعدها نقلت إلى العنبر الداخلي مع معتقلين آخرين «انتابنا شعور كأنه أطلق سراحنا، بعدها نقلنا إلى جزيرة جدة، وهي جزيرة من أجمل جزر البحرين فيها المناطق الجبلية الصخرية المطلة على البحر، وكان المعتقلون في جدة معزولين عن المساجين حتى لا ينقلون لهم مرض السياسة ولذلك كانوا يحافظون على المساجين».
الرحلة بقطار الشرق السريع
بعد خروج الحمادي من المعتقل منتصف ديسمبر 1973، حصل على مبلغ قدره 1300 دينار عن فترة اعتقاله «على اعتبار أني لم أحاكم وهذه مجموع رواتبي طول فترة الاعتقال، قررت بعدها السفر إلى لندن للدراسة فأعطيت الوالدة 500 دينار وأخذت 800 وركبت الطائرة إلى الكويت بتاريخ 14 مارس 1974، وسافرت من هناك براً إلى البصرة بتاريخ 17 مارس، ومن البصرة بالقطار إلى بغداد لأني أردت السفر إلى لندن بحراً لأنه أرخص من الطائرة، لذلك ركبت قطار الشرق السريع».
حصل على تأشيرات الدول التي يمر بها القطار في طريقه إلى لندن «بعد حصولي على التأشيرات استقليت القطار من بغداد إلى الموصل ثم القامشلي، فحلب «باب الهوى» ومن ثم الأراضي التركية «لواء إسكندرون» أنقرة ثم أسطنبول، كان القطار التركي في تلك الفترة بطيئاً جداً، حتى وأنت جالس في القطار تعتقد أنك لو خرجت من القطار وتسابقت معه جرياً على الأقدام لأمكنك تخطيه».
جلس الحمادي في أسطنبول فترة «ثم توجهنا إلى الحدود البلغارية اليونانية، وهناك حضر موظف الجوازات البلغاري وطلب مني إنزال الحقائب والرجوع إلى أسطنبول لأني لا أحمل التأشيرة اليوغسلافية، وكان يقول «فيزا يوغسلاف نيت» بكج «الحقائب» يعنى ما عندك تأشيرة إلى يوغسلافيا لذلك أنزل الحقائب، علماً أن السفارة البلغارية أخبرتني بإمكانية الحصول على التأشيرة عند الحدود، ويوغسلافيا كانت تعطي العرب تأشيرتها عند الحدود أيضاً». اضطر إلى إنزال حقائبه والجلوس في المقهى لانتظار القطار الذاهب إلى أسطنبول «خلال فترة الانتظار وإذا بشخص يطرق الزجاج الفاصل مابين المقهى ومكتبه، ويشير علي بالذهاب إليه وإذا هو مسؤول الجوازات اليونانية، لأن هذه المنطقة هي ملتقى للقطارات القادمة من تركيا وبلغاريا واليونان، فلما علم بقصتي أخبرني أن القطار يمر في الرابعة صباحاً، فاستيقظت من النوم على صوت القطار فأخذت الحقيبة وركبت القطار حتى إني لم أستطع أن أشكره أو أعرف اسمه، وفي الحدود التركية أنزلني موظف الجوازات من القطار على اعتبار أن تأشيرتي لسفرة واحدة فقط».
20 دولاراً حلت مشكلة «الحدود»
ويتابع محمد الحمادي سرد حكايته مع قطار الشرق السريع «طبعاً هنا دارت الدنيا حولي، وتجمد الدم في عروقي لأني في نقطة حدودية ولا أستطيع الاتصال بأحد وليس بإمكاني دخول أي من البلدين، أخبرت موظف الجوازات أن بلغاريا لا تريد إدخالي وتركيا أيضاً فأين أذهب؟ هل أطير لأعبر إلى بلدي ليس هناك طريق إلا بدخول تركيا أو بلغاريا».
في هذه الأثناء وهو حائر بأمره ولا يدري ما يفعل «إذا بيد تربت على كتفي ألتفت إليه وإذا بشخص لا أعرفه يقول لي إذا أردت دخول تركيا أعطي الموظف 20 دولاراً وتحصل على التأشيرة، لم أكن أعرف معنى الرشوة وأن الكثير من الأمور في مثل هذه الدول لا تحل إلا عبر هذا الطريق المختصر، كنت على استعداد أن أعطية ما أملك من مال في سبيل التأشيرة وليس 20 دولاراً فقط».
منح الحمادي تأشيرة ليوم واحد فقط إلى تركيا «عندما رأيت التأشيرة أحسست أن أبواب السماوات انفتحت أمامي على مصراعيها، ومن يومها كلما أشاهد فلم الحدود من بطولة دريد لحام أتذكر نفسي محله».
في اليوم التالي طرق أبواب السفارة البلغارية وحصل على تأشيرة لدخول البلاد «رجعت مرة أخرى بالقطار، علماً أنه أصابني هاجس يقول لي أرجع إلى البحرين وبلا السفرة ومشاكلها وأرجع إلى أهلك أحسن، لكني طردت هذه الهواجس ووصلت إلى العاصمة البلغارية صوفيا، ومن ثم إلى براغ ثم زغرب في يوغسلافيا سابقاً، ومنها إلى ميلان في إيطاليا ومن هناك إلى باريس ثم كاليه ومن هناك بالعبارة إلى فلورستون في بريطانيا وصلتها بتاريخ 8 أبريل 1974».
هناك منح الحمادي أذناً لدخول بريطانيا بالجواز «في تلك الفترة لم تكن بريطانيا تطلب من البحرينيين تأشيرة دخول على اعتبار أننا تحت الاستعمار البريطاني، وعند التفتيش وجدوا بعض الأوراق والكتيبات حملتها معي من المؤتمر الأفروآسيوي في بغداد لقراءتها في القطار وعندها ألغيت بصمة الدخول وبدأ التحقيق».