يشهد الوطن العربي حالياً حراكاً واسعاً من أجل تأسيس المحكمة العربية لحقوق الإنسان، ولهذه المبادرة دلالتان هامتان إحداهما تتعلق بمملكة البحرين، والأخرى تتعلق بالدول العربية. فيما يتعلق بدلالة هذا المشروع لمملكة البحرين فإنها تنطلق من اهتمام كبير من عاهل البلاد حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة بتأسيس المحكمة باعتبارها مشروعاً حقوقياً طموحاً يساهم في تطوير منظومة حقوق الإنسان العربية. ففكرة المشروع انطلقت من المبادرة التي أعلن عنها جلالة الملك وكان صاحب المبادرة بشأنها. حيث جاءت رؤية العاهل لتأسيس المحكمة الحقوقية العربية انطلاقاً من قناعة تامة بضرورة وجود آليات محاسبية قانونية لضمان احترام مبادئ حقوق الإنسان وحماية هذه المبادئ المهمة، خصوصاً في ظل التوجه العالمي لتعزيز هذه المبادئ التي أنشأت لها العديد من المؤسسات والآليات ضمن منظومة الأمم المتحدة بهدف التأكد من تطبيق الحكومات لمبادئ حقوق الإنسان والوقوف على مدى احترامها.
وتتقاطع رؤية جلالة الملك بشأن تأسيس المحكمة العربية لحقوق الإنسان مع الظروف التي مرت بها مملكة البحرين، والدول العربية بشكل عام خلال السنوات الأخيرة والتي أثبتت مدى الحاجة لهذه المحكمة. وما ميّز هذه الرؤية أيضاً تجربة المملكة في التعامل مع القضايا الحقوقية، حيث كانت سباقة بشأن التوقيع والتصديق على العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. وساهمت كذلك تجربة البحرين في إثراء القانون الإنساني الدولي عندما شكلت اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق في العام 2011 بمشاركة نخبة من الشخصيات الحقوقية الدولية، وأسفرت جهودها عن إصدار تقرير هام بشأن الأوضاع في البحرين، وما أعقبها من التزام المملكة بتنفيذ توصيات اللجنة على أعلى المستويات.
على المستوى العربي، فإن المنظومة الحقوقية العربية مازالت بحاجة إلى مزيد من التطوير لإيجاد آليات فعّالة للمسائلة والمحاسبة فيما يتعلق بحقوق الإنسان في ظل توجه معظم الدول العربية نحو تعزيز مبادئ حقوق الإنسان، وضمان سيادة القانون لحماية هذه المبادئ. فمنذ تأسيس منظومة جامعة الدول العربية في 22 مارس 1945 وتأسيس 11 منظمة عربية تابعة للجامعة باعتبارها منظمات إقليمية كانت الحاجة مستمرة لتطوير أداء الجامعة ودورها في حماية حقوق الإنسان. وبالتالي فإن مبادرة جلالة الملك بتأسيس محكمة عربية لحقوق الإنسان تأتي في سياق تطوير هذه المنظومة نحو مزيد من الاهتمام والحماية للمبادئ الحقوقية المختلفة.
مبادرة البحرين بتأسيس محكمة حقوق الإنسان العربية حظيت بترحيب عربي واسع واهتمام لافت، وكذلك رغبة فورية بتنفيذ المبادرة لتكون حقيقة على أرض الواقع. وفي 10 مارس 2012 أصدر مجلس جامعة الدول العربية قراره رقم «7489» في دورته العادية رقم «137»، وينص القرار على «الترحيب بمبادرة مملكة البحرين باستضافة مؤتمر لبحث إنشاء المحكمة، وتكليف الأمانة العامة بإعداد دراسة حول إنشاء المحكمة –بالاستعانة بخبراء قانونيين عرب –مع الاسترشاد بالتجارب الإقليمية لإنشاء مثل هذه المحاكم، وتعميمها على الدول الأعضاء لإبداء ملاحظاتها عليها تمهيداً لعرضها على المؤتمر الذي سيعقد في المنامة، وعرض توصيات المؤتمر على مجلس الجامعة في دورة قادمة».
في نهاية فبراير 2013 استضافت مملكة البحرين أول مؤتمر خاص لتأسيس المحكمة العربية لحقوق الإنسان تنفيذاً لقرار المجلس الوزاري بجامعة الدول العربية، وتوصل المؤتمر للعديد من التوصيات الهامة والتي تقرر رفعها للدورة المقبلة لمجلس الجامعة المقرر إقامته على مستوى القمة في العاصمة القطرية الدوحة خلال شهر مارس الجاري لاتخاذ القرارات اللازمة بشأن إنشاء المحكمة.
تمخض عن مؤتمر المنامة لتأسيس المحكمة العربية لحقوق الإنسان مجموعة من التوصيات الهامة، حيث شارك في المؤتمر الأمين العام لجامعة الدول العربية الدكتور نبيل العربي مجموعة من التوصيات الهامة، وتولى رئاسته وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف الشيخ خالد بن علي آل خليفة، ومشاركة وزير خارجية لبنان، ووزير العدل في دولة قطر،وممثلي الدول العربية، ونخبة من الخبراء القانونيين العرب.
تركز مؤتمر المنامة على مناقشة ثلاثة محاور أساسية بعد تقديم العروض الخاصة بأعضاء لجنة الخبراء القانونيين العرب التي شكلها أمين عام جامعة الدول العربية. وشملت هذه المحاور: أولاً: أهمية إنشاء المحكمة في إطار تعزيز منظومة حقوق الإنسان في الوطن العربي. ثانياً: مناقشة فكرة إنشاء المحكمة من خلال بروتوكول اختياري مع الاسترشاد بالتجارب الإقليمية. ثالثاً: دراسة الملامح الرئيسة لتشكيل المحكمة واختصاصها والقانون الواجب التطبيق.
أما فيما يتعلق بتوصيات مؤتمر المنامة فشملت الترحيب بمبادرة جلالة الملك بإنشاء محكمة عربية لحقوق الإنسان باعتبارها آلية قانونية ضرورية لدعم منظومة حقوق الإنسان بالوطن العربي، وتعزيز احترام حقوق الإنسان وحمايتها. بالإضافة إلى عرض تقرير وتوصيات المؤتمر على مجلس الجامعة على المستوى الوزاري تمهيداً لرفعها إلى الدورة المقبلة للقمة العربية في العاصمة القطرية. أيضاً تكليف لجنة رفيعة المستوى مفتوحة العضوية من الخبراء القانونيين من ممثلي الدول الأعضاء بجامعة الدول العربية لوضع مشروع (نظام أساسي/ بروتوكول)لمحكمة عربية لحقوق الإنسان،وعرض نتائج أعمالها على مجلس الجامعة. وكذلك التأكيد على أهمية مصادقة جميع الدول العربية على الميثاق العربي لحقوق الإنسان.
تأسيس المحكمة العربية لحقوق الإنسان باتت في الطريق نحو التأسيس، ومن المقرر أن تشهد الفترة المقبلة قرارات هامة ليتم الإعلان عن تأسيس المحكمة بعد تنفيذ توصيات مؤتمر المنامة. وهو ما سيكون نجاحاً كبيراً للدبلوماسية البحرينية التي طرحت المبادرة على أعلى المستويات بهدف إيجاد آلية قانونية عربية خاصة بمحاسبة حقوق الإنسان.