كتب ـ عبدالرحمن صالح الدوسري:
في الستينات وحتى أواسط السبعينات كانت السينما في البحرين ملاذ من يطلب المتعة البريئة، والتخلص من ضغوطات الحياة اليومية، ومن السينمات المشهورة آنذاك «بن هيرس» أو «الحمرا» والزياني والقصيبي والجزيرة وأوال والنصر والبحرين والأندلس بمدينة عيسى، ومن أشهر ما عرض فيها «بس يابحر» للمخرج خالد الصديق وبطولة سعد الفرج وحياة الفهد ومحمد المنصور.
كانت ملصقات الأفلام ودعاياتها تعلق على الحيطان في بعض الفرجان خاصة في مناطق وجود الأيدي العاملة الآسيوية والعمانية، وكانت سينما الزياني تركز على ضيوف البحرين والمقيمين العمانيين لتبعث لهم إلى الفرضة حين وصول اللنجات برجل يحمل لوحات إعلانية عن الفيلم كي يحجزوا التذاكر لحضوره.
عنترة معشوق العمانيين
كان صاحب الإعلان يجوب فرجان يسكنها العمانيون وخاصة الحورة، ليعلمهم بعرض الفيلم الليلة عند نهاية كل أسبوع حين يقبض العمال رواتبهم الأسبوعية ليصرفوها على «مغامرات عنترة وعبلة»، والتقيت الكثير من الأصدقاء العمانيين خلال زيارتي لمسقط وصلالة وأثرت معهم قصة عنتر وعبلة وبعض كبار السن ممن كانوا يعيشون بيننا، حدثوني أنهم كانوا يعتقدون أن عنترة وعبلة يعيشان في البحرين، وكان الكثير من أصدقائهما تتكرر زياراتهم إلى البحرين لمشاهدة العاشقين والبطل الذي لا يقهر، ويحدثون أصدقاءهم ويرغبونهم بزيارة البحرين ويقولون لهم «عنترة هالأسبوع اشترى سيفاً جديداً وإذا ما شفتوه تخسرون عمركم» فيحجز «الربع» ويأتون باللنشات ونستقبلهم على فرضة المنامة ونذهب بصحبتهم إلى سينما الزياني.
تخصصت سينما الزياني في عرض الأفلام العربية خاصة «عنتر وعبلة»، وكان يلقى إقبالاً كبيراً من العمانيين وكان صاحب السينما يتعمد عرضه نهاية كل أسبوعين حيث يكون هؤلاء العمال استلموا رواتبهم.
والظريف أنهم في كل مرة يذهبون فيها لمشاهدة الفيلم يرجعون ليحكوا القصة للآخرين من جديد وبابتهاج واضح ويؤكدوا أن «عنترة العبسي» هذه المرة يختلف عن سابقه من حيث القوة وشدة النزال، وأنه بالفعل غير سيفه وامتطى فرساً غير فرسه في فيلم الأسبوع الماضي، وكان أعداؤه يتناثرون من حوله ويهربون مرعوبين من صرخة الحصان القوي، حتى إن بعضهم مات خوفاً دون أن ينال ضربة سيف واحدة.
الأفلام الهندية
تلك كانت قصة الأشقاء العمانيين مع بطلهم عنترة، أما قصتنا فتختلف اختلافاً كلياً مع معشوقتنا الأفلام الهندية ودورها الرئيس في ثقافة السينما التي تجاوزت ثقافة الكتب والمكتبات حينها.
نذهب للسينما بعد أن نجمع «تحويشة» الأسبوع من مصروفنا المدرسي، وكثيراً ما نفضل يوم الخميس المخصص «للحريم» وندخل بعد أن يبدأ الفيلم بقليل ونسلم «هاشم» النصف روبية وندخل مهرولين في الظلمة بحثاً عن كرسي شاغر، وطبعاً كانت السينما روايحها غير، فهي خليط من العطور الغالية وأخرى «طايحة الحظ»، وكنا نتصور أنفسنا «سليم» يجلس بالقرب من «بمبي وآليه».
في فترة المراهقة تأثرنا كثيراً بأبطال الأفلام الهندية فكانت «الجقلو» تسريحة شعر توارثناها من أبطالها، وكثرنا من الدهن في الشعر ظناً منا أنه سيجعل شعرنا ناعماً.
بعد الخروج من الفيلم ننتشر في الشوارع نغني ونرقص وبعضنا يبحث عن جانب الشر ويدور له أحد «يتهاوش» معاه، هذه الثقافة تغيرت بعض الشيء بعد أن عرضت سينما البحرين أفلام عبدالحليم حافظ ومحرم فؤاد وماهر العطار ورشدي أباظة وكمال الشناوي ويوسف فخر الدين، رغم أن الكبار كانوا يضحكون علينا ويقولون «وش هالأبطال الطايح حظهم.. وين وحش الشاشة فريد شوقي ومحمود المليجي ووين أهل الطرب محمود الكحلاوي وعبدالعزيز محمود وكارم محمود ومحمد قنديل.. وين فيلم «تمر حنة» ووين خفاف الدم حسن فايق وعبدالمنعم إبراهيم ومحمود شكوكو وعبدالسلام النابلسي».
قصات شعر الفنانين
لم تتوقف ثقافة السينما عند الأغاني والمعارك لكنها تجاوزت كل هذه الحدود إلى قصات الشعر باسم كمال الشناوي وشنب رشدي أباظة، وحتى «الحريم» كان لهم في الطيب نصيب، واشتهرت لفترة طويلة قماش باسم «شعر صباح»، والعديد من الموضات كنا نستقيها من السينما لعدم وجود عروض الأزياء ومجلات الموضة، وتبقى السينما رغم ارتباط جيل الستينات والسبعينات بالمكتبات والكتب هي الممول الأول لكل ما نحتاجه من الموضة والأغاني وحتى ترتيب العلاقات بين المحبين دائماً ما كانت عن طريق الأفلام والممثلين.
الشيء المفيد للكثير من مدمني السينما الهندية أنهم تعلموا لغة جديدة واستطاعوا تصريف أمورهم بـ»الرطنة» بالهندي، من خلال إدمانهم الأفلام الهندية حتى إن بعض المفردات دخلت واستقرت في بيوتنا وأصبحت جزءاً من حياتنا، حتى إن السينما أثرت في ثقافة المطبخ البحريني إلى اليوم فأنت لا تستغني عن صحن ناشف مع خبز جباتي أبيض على الريق، والبرياني سواء باللحم أو الدجاج والصالة والقيمة والسنبوسة و«الألو جاب»، ونخي بشير والكثير من الأكلات تجدها في البحرين ولا تجدها في الهند.