كتب ـ علي الشرقاوي:
كان مساء الأربعاء الماضي دسماً مترعاً بالمحبة الإنسانية، حيث التقت أرواح الشعراء والمترجمين والفنانين التشكيليين في مكان واحد، مكان يليق بالشعر والإبداع «ساحة الرواق».
حيث الفن والتشكيل وهمسات اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، كلها اجتمعت وترافدت لتشكل عالماً من الموسيقى الإنسانية لا تعرف الحواجز ولا السدود.
ضمت الأمسية الشاعر المصري عبدالمنعم رمضان الذي جاء البحرين للمشاركة في هذا الحدث التاريخي، والشاعر البحريني قاسم حداد الذي يستعد بعد أيام لمغادرة البحرين، لاستكمال مشروعه الشعري في ألمانيا، ود.محمد الخزاعي المشرف على ترجمة القصائد العربية إلى الإنجليزية، ود.عبدالكريم حسن ود.سميرة بن حمو الذين عملا على ترجمة النصوص العربية إلى الفرنسية وبالعكس، وترعى ظلهم عيون الفنان التشكيلي الكبير هيمت محمد علي صاحب المشروع الثقافي الفني الضخم، وبالطبع كل هذا تم تحت إدارة وإشراف الفنانة بيان كانو.
قدم الفنان أعماله الفنية من خلال دعوة لسبعة شعراء عالميين أدونيس «سوريا»، قاسم حداد «البحرين»، محمد بنيس «المغرب»، سعدي يوسف «العراق»، عبدالمنعم رمضان «مصر»، برنارد نزيل وميشيل بموتور «فرنسا»، لمشاركته في رحلة إلى عشتار إلهة الحب والحرب عند البابليين والولوج إلى رؤى متعمقة تجمع بين الرسم والنحت والشعر.
وكتبت «الشرق» من باريس «ما الذي يمكن أن تثيره عشتار، رمز الحب والجمال لدى البابليين القدماء، في مخيلات 7 شعراء معاصرين؟ إنه سؤال قاد الفنان التشكيلي العراقي هيمت محمد علي إلى طرق مشروع يجمع بين الكتابة والرسم والتلوين والنحت وفن الكولاج، وجاءت مقدمة الجواب، أو جزئه الأول وافتتاحيته على شكل صندوق منقوش بكتابات عربية دقيقة، يمكن فتحه على مصراعيه ليكشف عن منحوتة من البرونز لعشتار، كما جاءت هيئتها في الآثار والجداريات التاريخية، وتضمن الصندوق كراسة فنية متصلة الأوراق، على الطريقة المعروفة في الفن الياباني، تحمل رسوماً ورموزاً متضادة الألوان والأشكال».
هذا العمل المعروض حالياً ضمن معرض جماعي في صالة «كلود ليمان» في باريس، وبطلب من الفنان، كتب كل منهم نصاً موجهاً إلى عشتار، وتمت ترجمة النصوص باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية، على أمل أن تصدر في كتاب يصممه ويرسمه هيمت.
وعن هذا المشروع قال هيمت لـ»الشرق الأوسط»، إنه أراد تناول الهموم المعاصرة من خلال رمز رافديني قديم، كما أراد أن يدعو أصدقاءه الشعراء إلى المائدة العامرة التي يشترك فيها التعبير التشكيلي بالتعبير الأدبي «عشتار في نهاية المطاف، هي فم يعبر من خلاله كل منا عن همه الخاص».
هيمت محمد علي
هيمت الفنان الكردي المولود في كركوك عام 1960، لم يدرس الفنون التشكيلية بشكل أكاديمي، لكن امتلك موهبة لفتت إليه أنظار كبار فناني العراق في ثمانينات القرن الماضي، وخاصة أستاذه شاكر حسن آل سعيد الذي رأى فيه خامة تبشر بالكثير.
سافر هيمت ورأى وزار المتاحف وتبحر في حضارة موطنه وخالط أجناساً من الفنانين وأنتج أعمالاً شاركت في معارض عالمية شرقاً وغرباً، ودخلت أعماله المتاحف واقتناها أصحاب المجموعات الخاصة.
إنه فنان تطغى شهرته في اليابان على شهرته في الشارع العربي، ومع ذلك مازال يحتفظ بتواضع جميل ودماثة لا تخدشها مقالات الإطراء ولا المزادات العالمية. ومن المناسب في هذا الصدد الإشارة إلى أن أحد أعماله عرض ضمن مزاد الفنون الشرقية «فنانون عرب وإيرانيون وأتراك»، الذي نظمته صالة «كريستيز» في دبي، وعنوان العمل المذكور «البحر»، وهو حاجز «بارا فان» أزرق اللون بشكل عمودي وتعلوها مويجات وانحناءات وتنويعات صدفية مستلهمة من البيئة البحرية، واستغرق العمل فيه سنتين وتم على مراحل وانتهى عام 2008.
مرسم هيمت في باريس
تمكن الفنان العراقي المقيم في باريس منذ سنوات من الحصول مؤخراً على مرسم في مبنى «لا روش» الفذ، في الدائرة 15 من باريس. والمبنى هو منزل دائري شيده النحات ألفريد بوشيه قبل 100 عام، مستخدماً مواد جمعها من مخلفات المعرض الكوني الذي استضافته العاصمة الفرنسية مطلع القرن الماضي.
وأساس المبنى هيكل معدني ذي نوافذ زجاجية من تصميم غوستاف إيفل، مهندس البرج الباريسي الأشهر في العالم، كان مخصصاً لجناح الأنبذة، وتقود إليه بوابة حديدية شاهقة مزخرفة كانت مدخلاً إلى «مبنى النساء» في المعرض. ومع مرور الزمن، تحول المبنى بما يحيط به من مرافق وحدائق إلى مدينة لإقامة الرسامين والنحاتين الذين أصابوا شهرة عالمية أمثال مودلياني وشاغال وسوتين وبرانكوزي وليجيه، وفي عام 1972 تم تصنيف المبنى تراثاً قومياً لا يجوز هدمه أو المساس به. يقيم هيمت ويرسم في ورشة بالطابق الثالث، يتسلل إليها ضوء النهار من نافذة زجاجية عريضة ومن كوة في السقف، إنه القدر السعيد الذي قاد فناناً جاء من بلد الحضارات الإنسانية القديمة، ومن النار الأزلية في كركوك، كي يبدع تحت السقف الزجاجي ذاته الذي جمع رواد الفن المعاصر في فرنسا.
المعرض الرائع الذي ضم أجساداً وأرواحاً ولغات وأشكالاً، هو من أهم الإنجازات التي يراهن عليها الإنسان العالمي، لأنها قادرة وحدها على تجاوز كل الخلافات والأيدلوجيات والمذاهب والأديان لتصب في مكان واحد، هو روح الإنسان المضاءة دائماً بالمحبة والإخوة الكونية، لنشد على يد كل من أسهم بإنجاز العمل بحرارة المحبين ونعانقهم عناق الماء والهواء.