كتب ـ أمين صالح:
عندما يعلم شولتز «صائد المكافآت» أن زوجة جانغو تجيد التحدث باللغة الألمانية وأن اسمها برومهيلدا، وهو اسم ألماني ورد في أسطورة سيجفريد الألمانية وتقول إن تنيناً يختطف حبيبة سيجفريد ويأخذها إلى قمة الجبل المحاط بنيران الجحيم حتى لا يتمكن أحد من إنقاذها. سيجفريد يقوم برحلة محفوفة بالمخاطر لإنقاذها، عندئذ يقرر شولتز أن يساعد جانغو لأنه رأى فيه صورة مماثلة للبطل الأسطوري، ويتعين عليه أن يقوم برحلة مماثلة لإنقاذ زوجته.
إنه يعقد اتفاقاً مع جانغو، أن يرافقه حتى يعثر على الإخوة الخارجين على القانون، لأنه الوحيد القادر على التعرف عليهم، ومقابل هذا العون، يعلمه فنون مطاردة الخارجين عن القانون وتصفيتهم، ويدفع له حصته من المكافأة، ويعتقه ويوصله إلى زوجته، بعد أن فرقوا بينهما وباعوا كلاً منهما إلى تاجر مختلف، بعد أن حاولا الهرب من سيدهما.
جانغو يظهر شجاعة غير عادية، ويبرهن على قدراته في القضاء على الخارجين عن القانون، ومع شولتز يجوبان الأقاليم بحثاً عن المجرمين، وفي الوقت نفسه يستفسران عن مكان الزوجة.
يكتشفان أنها بيعت إلى إقطاعي صاحب مزرعة كبيرة «ليوناردو ديكابريو»، وهو شخص سادي، عديم الرحمة، جشع، مالك للعبيد، يخضع عبيده من الرجال لقتال عنيف حتى الموت، والنساء يدفعهن للدعارة.
في حين يشرف على العبيد زنجي مسن «صامويل جاكسون»، يتسم بالخبث والمكر والقسوة، هو مقرب من المالك، يتملق سيده، ويبدو أكثر شراً من المالك.
إنه شخص بغيض، يخون بني جنسه ويضطهدهم ويبطش بهم في سبيل منفعته الخاصة، وحتى يحمي مركزه ومكانته في البيت والمزرعة. ويكشف لسيده حيلة جانغو ورفيقه، عندما يتظاهران أنهما تجار عبيد يبحثان عن عبيد للتقاتل فيما بينهم، على أن يأخذا برومهيلدا مع العبيد المصارعين.
عن هذا النموذج «زنوج المنازل» تحدث الناشط السياسي الأسود مالكولم إكس في خطابه عام 1963 قال «هؤلاء يحبون أسيادهم أكثر مما يحب السيد نفسه (..) إذا قال السيد لدينا منزل رائع هنا.. سوف يردد هذا الزنجي مؤكداً نعم، لدينا منزل رائع هنا (..) كلما قال السيد نحن.. ردد الزنجي قائلاً نحن (..) إنه يطابق نفسه مع سيده أكثر مما يتطابق السيد مع نفسه».
وجسد صامويل جاكسون هذا النموذج بإتقان وعمق وقوة، ورغم من قصر دور جاكسون نسبياً، إلا أنك إزاء كل ظهور له على الشاشة يتملكك إحساس غامر بأنك أمام حضور عملاق، طاغ، مهيمن.
في هذه المزرعة، يشاهد جانغو وشولتز رعب العبودية وشرورها، اضطهاد الآخر، الكائن الأضعف، المسلوب الإرادة والحرية، ومحاولة تجريده من كل حقوقه وخاصياته الإنسانية.
إنهما يقرران الالتزام بالخطة، بالتظاهر أنهما من تجار العبيد، ثم محاولة إنقاذ الزوجة، لكن خطتهما تنكشف، ويلقى شولتز مصرعه، بعد أن وجد نفسه أخيراً في خضم صراع أو مأزق أخلاقي لم يتوقع أن يواجهه قط، وأنه يحارب فجأة دفاعاً عن قضية نبيلة يؤمن بها، بينما يتمكن جانغو من القضاء على الجميع، ويأخذ زوجته بعيداً عن هذا المستنقع.
الفيلم في أحد مظاهره، قصة حب مأساوية، عن رجل لقي من الظلم والكبح والإذلال ما يمكن أن يجعله متحجر العواطف، متبلد الأحاسيس، لكن هذا الرجل «جانغو» لا يريد من هذا العالم غير شيء واحد أن يجد زوجته ويكون معها من جديد، ومن أجل أن يصل إليها هو مستعد أن يواجه كل الصعاب والمخاطر وأن يذهب إلى أبعد مدى كي يحقق غايته ويسترد حبيبته.
عوالم كوينتن تارانتينو ليست مستمدة من الواقع أو التاريخ أو المصادر الأدبية، إنها مخترعة، مختلقة، مؤسلبة، عوالم متخيلة، غنية، حيوية، يخلقها من عناصر المخيلة والذاكرة السينمائية، أفلامه لا ترتكز على حقائق ووقائع.
إنه يعيد كتابة التاريخ كمثال تاريخ الحرب العالمية الثانية في فيلمه «Inglorious Bastards» على نحو سينمائي تخيلي، وليس اعتماداً على حقائق أو وقائع.
تارانتينو بارع جداً في كتابة الحوار، في صياغة المونولوجات الطويلة، الملفتة والجذابة، بالغة العمق والحيوية، والثرية لغوياً، هنا تارانتينو لا يسرع الإيقاع، لا يتهيب من جعل المشهد يدور ويستغرق وقتاً، بل يأخذ راحته، ويخصص وقتاً للمتفرج كي يكشف الشخصيات من خلال المونولوجات والحوارات، وأن يستوعب الأحداث من غير استعجال.
ورغم طول المساحة الحوارية، إلا أنها تملك قدرة فائقة على شد الجمهور، بفضل حسن اختياره لممثلين لديهم قدرة عالية على الإحساس بحواراتهم والمهارة في الإلقاء وشد انتباه الجمهور إليها.
وربما لهذا السبب ـ وأيضاً بسبب براعته في خلق شخصيات لا يمكن أن تنسى بسهولة - لا يمانع الممثلون الكبار من العمل مع تارانتينو وتأدية شخصيات ثانوية، أو شخصيات بغيضة قد يكرهها الجمهور.
كذلك هو بارع في خلق التوتر والدعابة معاً ضمن المشهد الواحد، لاحظ كمثال ساطع، التوتر البالغ الذي تتبعه فكاهة صارخة في مشهد مطاردة مجموعة كبيرة من العنصريين «جماعة الكوكلوس كلان» لجانغو ورفيقه.
إلى جانب الأداء الاستثنائي لصامويل جاكسون، نشهد أداءً مذهلاً من الممثل النمساوي كريستوف فالتز، الذي حصل على عدة جوائز عن هذا الدور «الأوسكار، الأكاديمية البريطانية وغيرهما» مثلما فعل في 2009 عندما فاز بالأوسكار ومهرجان كان وجوائز أخرى، عن تجسيده لدور النازي في Inglorious Bastards الذي أخرجه تارانتينو أيضاً، وحقق له الشهرة العالمية. كذلك حاز تارانتينو على جائزة أفضل سيناريو من الأكاديمية الأسترالية والأكاديمية البريطانية والأوسكار.