لا أعلم من أين أبدأ، جميع الأفكار مبعثرة في داخلي ولا أعتقد أني بهذا البوح أوفيك حقك يا جدتي. قد مضى الآن أسبوع واحد منذ رحيل الغالية. توفاها المولى عز و جل مساء الإثنين 29 من شهر ربيع الثاني 1434 هـ الموافق 11 مارس 2013 م بعد أكثر من أسبوعين من مرض ألزمها فراش المستشفى. سيحفر هذا التاريخ في ذاكرتي وذاكرة كل الأقرباء باليوم الذي انطفأت فيه (شمعة البيت) كما كنا نسميها. قد أكون أحد أحفادها الكثر، لكن كانت تربطني بها علاقة قوية، كيف لا وأنا المسمى باسم زوحها المرحوم يوسف بن محمد بومطيع. كانت لا تناديني بغير (بويعقوب) وتفرح لرؤيتي مثلما كنت أفرح لرؤيتها. ولعل موقع شقتنا التي كانت فوق منزل جدتي الكائن بفريج الصنقل بالمحرق ساهم في بناء هذه الرابطة القوية بيني وبينها. كنت من صغري أرى فيها النموذج الأمثل للمرأة المسلمة البحرينية الأصيلة، قدوة للكبير قبل الصغير. وإن كنت تنشد الماضي العريق والتراث الأصيل فستجده متجلياً في شخصها، في كلامها، في أمثالها وفي مواقفها. كانت تعرف قديماً بـ(المطوعة موزة) فكانت تدرس الأطفال كتاب الله. تتلمذ على يدها الكثير من رجال اليوم، ونحسبه عند الله علماً نافعاً يجري لها كصدقة تثقل موازينها يوم القيامة. كانت مؤمنة بقضاء الله وقدره تتحمل المصائب والابتلاءات فتقول (ابن آدم يقول والدنيا تقول به). كانت هي صاحبة القرار والمرجع الأول والأخير في كل خطوة يقوم بها أبناؤها، وكما قال عنها د.عدنان بومطيع (في غضبها كل الحنان وفي صرامتها كل الرقة). كانت حكيمة في قراراتها وتحرص كل الحرص أن لا يكون قرارها مفرقاً لشمل العائلة. صبرت وتحملت الكثير في سبيل الإبقاء على وحدة العائلة.
في مجلسها يتجمع القاصي والداني، أقرباء من بعيد لا أعرف صلتهم بي، لكن البعيد عندها قريب، فهم في نظرها جميعاً أبناؤها. ولا يحلو يوم الجمعة من دون لمة الغداء في منزلها المبارك وفي حضرتها. لا أزال أذكر بعض الأيام التي كنت أحضر إليها مبكراً بعد صلاة الجمعة مباشرة وأجلس أنتظر مع ابن عمي وصول الأهل للغداء. حتى إذا ما طال انتظارنا أخذت توبخ بناتها على تأخير الغداء إلى حين وصول جميع الأهل، فتقول (تخلون عيالي من ساعة ينطرون بدون أكل) فكان الحاضر لديها أولى من المتأخر.
بعدها أخذنا نؤخر ذهابنا لغداء الجمعة مخافة أن توبخ عماتنا بسببنا! ولم تكن تكف عن مراقبة الصحن الذي أمامنا فكلما نقص أمرت بزيادته وتقول (لاتقصرون على عيالي) حتى إذا ما شبعنا وقمنا قالت (ورى .. ماكلتوا شي!).
ولم تكن تنسى الجيران ومن غاب من الأهل من لقمة عيش تتنقصها لهم. كانت الملاذ الآمن والحضن الدافئ للجميع. وهي بلا شك أم الإحسان، كيف لا وهي من أمرت باستضافة عائلتين من جيراننا تقطعت بهم السبل ولم يجدوا بيتاً لهم، أمرت باستضافتهم وإسكانهم في جزء من بيتها وعمارة جدي دون أي مقابل مادي! عز عليها أن يبحثوا عن منزل أو يسكنوا عند أحد أقربائهم وهي أولى الناس بهم فكانت تقول (نستاجر فيهم). لو أردت استرجاع جميع الذكريات والمواقف الجميلة معها لن أوفي ذلك، فلعلي أكتب بعض ما أذكره وما سنحت لي الفرصة بتدوينه في هاتفي. لن أنسى تلك الأيام التي كنت أنام عندها و لم تكن لديها خادمة. كانت ترش العطر ودهن العود على وسادتي قبل أن أنام. وكنت أسمعها في كل ليلة تردد أذكار النوم ولا أذكر أنها تركتها ليلة. لن أنسى عندما كانت تطلب مني أن أذهب لشراء حاجة، تضع في يدي مائتي فلس وتقول (اشتر بربية خبز وربية خذلك فيها بارد). وأحياناً يزيد المبلغ كثيراً فلا ترضى استرجاعه وتعطيني كل (الخرده). لن أنسى أيام الشتاء عندما أسلم عليها فتمسك يدي بيديها الاثنتين قائلةً (يدك بارده!) فتمسح عليها قليلاً لتدفئتها.
مرت أيام صادفت سفر أبي وعمي يعقوب خارج البلاد، وكانت رحمها الله شديدة الخوف على أبنائها. سمعتها تدعو بعد الصلاة وتقول (الله يوفقكم مع الموفقين أنتو وأبييكم وإخوانكم وعييلكم وعيال عمكم وجميع أمة محمد والمسلمين، ويردكم حق عييلكم سالمين). وكان لعمي الأصغر صلاح مكانة خاصة عندها، فكانت تحرص على الاطمئنان على وصوله لمنزله سالماً بعد خروجه من عندها فتفرده بالقول (اتصل لين وصلت). ولا يكاد يخفى أنه كان في قلبها مكان خاص لكل من يحمل اسم يوسف من الأحفاد. فقد كنا أربعة أصغرنا لم يتجاوز السنتين وكانت تحب مناداته بـ(إمبحلقوه) وتفرح أيما فرح حين قدومه. كنت قد كلمتها قبل فترة قصيرة وهي تشكو لي آلام رجلها، فلم تكن تقوى على الوقوف والمشي في آخر الشهور. فمازحتها قائلاً (عاد انتي قلتي بترقصين في عرسي) وكانت قد وعدتني قبلها أن تفعل ذلك، فما كان منها إلا أن ترد (أفا عليك يا بويعقوب بارقص، ورى جايفني كبر أمك أنا؟). لم تخل من روح الدعابة حتى مع اشتداد مرضها. لأتوقف هنا، فلن يتسع المقال لباقي شريط ذكرياتي معها، ولن يقوى القلب على استذكار المزيد. [كانت ضحكتج تملى الفضا .. والبيت من بعدج فضا]. فها قد رحلتِ آخذة معكِ جزءاً من قلوبنا، فكيف نقوى على فراقك يا إديده. من لي الآن في ذلك المنزل الجميل ليستقبلني بـ(حي الله بويعقوب). قد جفت المقل، ولا نملك إلا الدعاء ((وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً)) فيا رب ارحمها واغفر لها وتب عليها ونقها من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واحشرنا معها مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والشهداء والصالحين، وأدخلها الفردوس الأعلى برحمتك يا رب العالمين. آمين.
هذه الكلمات في رثاء موزة بنت يوسف بن أحمد مراد
حفيدك المحب: يوسف بومطيع