يمثل الفكر السياسي الجانب الفكري والنظري للتحول الديمقراطي في أي مجتمع، فلا يمكن إحداث التحول الديمقراطي أو التنمية السياسية في ظل غياب الفكر السياسي الإيجابي القادر على بناء النظام الديمقراطي، فما هو الفكر السياسي؟
يمكن تقديم تعريف مبسط للفكر السياسي بأنه مجموعة من الأفكار والمبادئ والآراء السياسية التي تعاقب المفكرون من الناحية التاريخية في طرحها طبقاً لاحتياجات مجتمعاتهم وظروفهم التي تأثروا بها وعاشوا فيها. ولذلك فإن ما يميز الفكر السياسي ارتباطه الدائم بالتطور الذي شهدته المجتمعات والظروف التي مرت بها ودفعتها إلى طرح وابتكار أفكار سياسية متنوعة كانت محل جدل ونقاش واسع، وكانت أيضاً موضع التجربة باستمرار، وساهم هذا الفكر في تطور الأنظمة السياسية بالشكل الذي نراه اليوم في مختلف دول العالم. وحتى نكون أكثر فهماً لطبيعة تطور الفكر السياسي، فإنه من الأهمية بمكان تناول المراحل الرئيسة التي مر بها هذا الفكر بإيجاز. فيمكن تقسيم مراحل تطور الفكر السياسي إلى أربعة مراحل أساسية، وهي كالآتي:
المرحلة الأولى: تعد مرحلة الفكر السياسي القديم الذي قدمته لنا الحضارة اليونانية والحضارة الرومانية وكذلك الحضارة الصينية القديمة. حيث تركز الفكر في هذه المرحلة على تحديد طبيعة العلاقات بين المواطنين والدولة، وضرورة وجود قيم وأخلاقيات للحكم في المجتمعات.
ومن أهم المفكرين السياسيين في هذه المرحلة المفكر اليوناني الشهير أفلاطون الذي تتلمذ على يد سقراط، وكانت رؤيته تقوم على كيفية قيام الدولة المثالية القائمة على الفضيلة والتي اعتبرها ممثلة في المعرفة. وأكد أفلاطون حينها على أن الدولة يجب أن يحكمها العلماء والفلاسفة نظراً لما يملكونه من معرفة ثرية تتيح لهم ممارسة الحكم دون الحاجة لوجود قوانين. ولكنه أضاف لاحقاً مجموعة أخرى من الأفكار أكد فيها أهمية القوانين وضرورتها لمساعدة الحاكم. وبالتالي كانت رؤيته للدولة بأنها خليط بين الحكم الملكي القائم على الحكمة والمعرفة، والحكم الديمقراطي القائم على الحرية. كما قدم إضافات تتعلق بالوظائف الرئيسة للدولة، وتتمثل في سد الحاجات الأساسية للأفراد، وحماية الدولة داخلياً وخارجياً، وتنظيم وإدارة شؤون الدولة.
وصنف أفلاطون أيضاً الدول إلى عدة أنوع، أبرزها: الدولة المثالية، والدولة التيموقراطية «الدولة التي تحكمها أقلية من العسكر»، والدولة الأوليجاركية «دولة الأقلية الغنية»، والدولة الديمقراطية، ودولة الفرد الطاغية.
وفي نفس المرحلة من تطور الفكر السياسي ظهر لاحقاً أحد علماء اليونان وهو أرسطو الذي تتلمذ على يد أفلاطون، ورأى أن الدولة بدون قوانين لا يمكن أن تكون مثالية باعتبار أن من يحكمها بشر قابل للخطأ والصواب، وبالتالي أكد أهمية سيادة القانون.
المرحلة الثانية: هي مرحلة العصور الوسطى التي ساد فيها الفكر السياسي المسيحي والإسلامي، وركزت على البحث في العلاقة بين الدين والدولة، وكيفية تنظيمها.
حيث ركز المفكرون السياسيون المسيحيون ـ ومن أهمهم المفكر مارسيليو دي بادوا ـ على ضرورة فصل الدين عن الدولة بسبب إساءة الكنيسة استخدام الدين، مما أدى إلى عدم استقرار الدول في أوروبا، ومن ثم تخلفها مع دخولها فيما يسمى تاريخياً بـ «عصور الظلام والتخلف».
وفي المقابل ركز الفكر السياسي الإسلامي على أهمية ارتباط الدين بالدولة، حيث ترى الشريعة الإسلامية عدم إمكانية فصل الدولة عن الدين، بل يجب أن تخضع الدولة لتعاليم الإسلام وممارساته في مختلف مناحي الحياة، وهذا الارتباط يعد عامل استقرار الدولة، ويضمن احترام الحقوق والواجبات فيها بشكل متساو وعادل، إضافة إلى أنه ضمان لتطورها. وكان المفكر المسلم الأبرز في هذه المرحلة ابن خلدون الذي يرجع إليه الفضل في ابتكار مفهوم الحكومة بمعناها الحديث المعمول به اليوم في العالم.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة عصر النهضة في أوروبا، والتي تبدأ من العام 1453، وشهدت المرحلة نفسها قيام الثورة الصناعية، وظهور الدول القومية.
تركز الفكر السياسي في هذه المرحلة على كيفية البحث في الشكل الأفضل والأنسب للحكم، واهتم المفكرون بتحديد القيم والحريات العامة التي يجب أن تسود في كل مجتمع، ومن أبرزها قيم الحرية والديمقراطية.
ومن أهم المفكرين في هذه المرحلة المفكر الفرنسي جان جاك روسو الذي رأى أن الدولة تعد نتاجاً لعقد اجتماعي افتراضي بين مكوناتها، والمفكر الإيطالي ميكافيللي الذي كان من أشد المدافعين على مبدأ فصل السياسة عن الكنيسة، وصاحب المقولة الشهيرة في عالم السياسة اليوم «الغاية تبرر الوسيلة».
المرحلة الرابعة:هي المرحلة الممتدة من مطلع القرن العشرين وحتى يومنا المعاصر، وما ميزها ظهور الثورة العلمية والتكنولوجية والاتصالية في العالم بالشكل الذي نعرفه اليوم. في هذه المرحلة ظهرت المذاهب السياسية الكبرى المعاصرة ومن أبرزها المذهبان الرأسمالي الليبرالي والاشتراكي. ومن أهم مفكري هذه المرحلة كارل ماركس ولينين.
خلاصة تطور الفكر السياسي في العالم، أن ما نعيشه اليوم من أنظمة سياسية ديمقراطية وغير ديمقراطية وحكومات وسلطات ثلاث وأحزاب سياسية، ومبادئ حقوق الإنسان، والحريات العامة، جاءت من تطور الفكر السياسي الإنساني على مدى قرون طويلة. وخلال هذه الفترة ساهم الفكر السياسي المتعاقب على إيجاد تصورات ورؤى متنوعة لكافة المجتمعات، تختار منها ما تشاء، وتطبق منها ما يتناسب مع احتياجاتها وظروفها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المختلفة، لأن معادلة التحول الديمقراطي تقوم على غياب نظام سياسي ديمقراطي واحد بنموذج واضح، بل هناك مبادئ وممارسات مشتركة يمكن اختيار منها ما يناسب كل مجتمع على حده.
والحقيقة الأخرى التي تمثل خلاصة الفكر السياسي الإنساني أن الأنظمة السياسية لم تكن في يوم من الأيام جامدة، بل هي قابلة للتطور باستمرار في ظل وجود توافق عام بين مكونات كل مجتمع تدفعه دائماً نحو التطوير.