كتبت ـ ياسمين صلاح:
دخل أحمد مركز الوفاء لرعاية أطفال التوحد في سن الثامنة، كان انعزالياً انطوائياً يفتقد مهارات التواصل والتفاعل مع محيطه، عند دخوله كان أحمد يتعامل بلغة الإشارة المبهمة ولا يكاد ينطق بكلمة صحيحة.
انخرط أحمد بصفوف المركز، اختلط بأقرانه ومعلميه بادلهم الحب بالحب والتحية بالتحية وإن على استحياء وخجل، وهو لا يني يردد «صباح الخير» و»شكراً» و»أحبكم جميعاً».
في سن الثانية عشرة خرج أحمد من المركز لبيت أهله طفلاً مختلفاً، يقرأ ويكتب ويتفاعل مع محيطه ويحترم من هم أكبر سناً، والأهم أنه تجاوز «توحده» وبات اجتماعياً.
أحمد اليوم
في مركز الوفاء لرعاية المتوحدين تحفظت المدرستان خلود العرادي ورحيمة العباسي ـ مراعاة للخصوصية ـ على ذكر الأسماء الكاملة لأطفال المركز، وسردتا قصصاً واقعية من عالم التوحد.
تعود خلود العرادي بذاكرتها إلى عام 1997، وتسرد على مسامعنا حكاية الطفل أحمد «كان في عمر الثامنة عند التحاقه بالمركز، يرفض أن تطأ قدماه عتبة المركز، يجلس في الشارع قرب البوابة الرئيسة ويكتفي بالتحديق عند موضع قدميه».
جلست خلود مع أحمد، داعبته وقصت عليه الأقاصيص، جلبت له الكتب والألعاب ولما تجبره مطلقاً على دخول المركز «كان مركز الوفاء أول مكان يخرج إليه أحمد من عالمه الخاص بالمنزل ليبدأ رحلة العلاج، سكن منطقة الحد ولم يحب الخروج من منزله يوماً، بعد مرور أقل من أسبوعين بدأ أحمد التسلل لأرجاء المركز، يتفحصه ركناً ركناً وزاوية زاوية، وكأنه يعيد اكتشافه».
في خلال شهر ابتداءً من الشارع المحاذي للمركز إلى الساحة الرئيسة والممر الداخلي لصفوف الأطفال المتوحدين، كان أحمد يروح ويغدو متفحصاً ما حوله بعناية شديدة، أحب بالتدريج دخول صفه ومشاركة زملائه لهوهم ومرحهم «يطل علينا في الصف بابتسامة عريضة تملأ وجهه ويقول صباح الخير».
في بدايات دخوله المركز، كان أحمد لا يجيد الكلام، ينطق متلعثماً بضعة أحرف متقطعة غير واضحة «تقدمت حالته للأحسن في غضون أشهر، وبات ينطق بكلمات بل بجمل عندما وصل سن التاسعة».
وعن عزلة أحمد الاجتماعية حين دخوله مركز الوفاء تضيف خلود «كان يفتقر لمهارات التواصل الاجتماعي وبناء العلاقات الاجتماعية مع أقرانه، بمرور الوقت وانخراطه في البرنامج العلاجي والتأهيلي، والعمل الدؤوب على تحسين قدرات تواصله مع الآخرين، تحمس أحمد للزيارات الأسبوعية التي ينظمها المركز للأطفال لمساعدتهم على رؤية العالم الخارجي وكسر حاجز الرهبة والعزلة مع المحيط المجتمعي».
ودع أحمد مركز الوفاء عند بلوغه الثانية عشرة، كان طفلاً مختلفاً تماماً يجيد مهارات القراءة والكتابة والتواصل مع الآخرين على حد وصف خلود العرادي.
حكاية طلال
تختم خلود قصة أحمد وتنتقل لتسرد لنا حكاية طلال، ذلك الفنان الموهوب المبدع «لم يكن يعرف القراءة والكتابة عندما بدأ علاجه بالمركز، رأيت في عينيه عزيمة على التعلم أهلته للمشاركة في مسابقات رسم على مستوى البحرين».
أخرج طلال المواهب المدفونة داخله قبل إكماله الثامنة «أجاد الكتابة والقراءة، ونما بداخله حب قراءة الصحف ومطالعتها يومياً، لا يمكن أن أنسى كيف تطور خلال 4 أعوام من طفل لا يعرف أبجدية القراءة إلى راسم موهوب وقارئ صحف نهم».
رحيمة العباسي كانت تنتظر دورها بشغف للحديث عن تجربتها مع أطفال التوحد، عن أطفال تركوا بصمة أمل لدى كل مصاب «أكثرهم تميزاً الطفل نادر.. وصل حالياً للمرحلة الثانوية بذكائه الفائق».
عانى نادر من حالة توحد مصحوبة بنشاط زائد، ولم يتعد الأربع سنوات عندما بدأ خطوته الأولى في رحلة العلاج «كان يلقي بجسده على الأرض يبكي ويصرخ رافضاً الجلوس على مقعد الدراسة، علمناه خطوة خطوة كيفية الجلوس على الكرسي، تعبنا كثيراً لتعديل سلوكه وتوجيه نشاطه الزائد نحو الصواب».
تطور نادر بسرعة لم يتصورها القيمون على حالته «تعلم اللغة العربية والرياضيات ومهارات التواصل الاجتماعي، وكان لا يستطيع إمساك القلم بيده حين قدومه المركز».
لاحظ معلموه العزيمة والإصرار على التعلم في عينيه «عندما اقترب من السابعة أجاد الحساب، وتميز بسرعة البديهة في عمليات الجمع والطرح، لم يكن ينتظر حتى تكمل معلمته تدوين المسألة الرياضية إلا وجاء بالحل الصحيح، ما أهله الالتحاق بمدرسة حكومية والانضمام لصفوف الدمج في البداية».
نادر بذكاء فاق المعدل الطبيعي لأقرانه، استطاع أن يقفز من صفوف الدمج إلى الصفوف العادية في غضون أيام معدودة من التحاقه بصفوف الدمج، ليصل حالياً للمرحلة الثانوية، وكان عمره 9 سنوات فقط عندما خرج من مركزنا ليمارس حياته الطبيعية».
فاطمة والموسيقى
وتحكي العباسي قصة الطفل عمر «لم يستطع نطق اسمه عندما جاء المركز»، لكن عزيمته على الشفاء نقلته إلى المدرسة الثانوية نفسها التي يدرس فيها ابن رحيمة العباسي.
تقول «لم يكن يتكلم أو يكتب أو يقرأ أبداً، لكن استطاع إخراج الرسام الموهوب الكامن بداخله، كسر حاجز العزلة ليلتحق بمدرسة حكومية عادية في عمر السابعة، أراه يومياً عندما أقل ابني من المدرسة، انخرط عمر في حياته الطبيعية أسوة بأقرانه الآخرين».
ولم تغادرنا رحيمة قبل أن تسمعنا حكاية الطفلة فاطمة «كانت تهاب الأصوات العالية، حصة الموسيقى كابوس مفزع، لكنها استطاعت بالتجربة أن توسع آفاقها وتحلق مع أنغام الموسيقى المنبعثة من الآلات».
وتضيف «تحولت فاطمة من حالة الصراخ والبكاء فور سماع صوت الألحان الصادرة من المسجل أو الآلات، إلى محبة للموسيقى ومشاركة في الغناء والدندنة، وجدت مخرجها من عالم الوحدة والعزلة خلف ستائر الموسيقى وعذب الألحان».