كتب ـ أمين صالح:
الفيلم لا يستعرض حياة الرئيس والأحداث المهمة التي مر بها طوال حياته بل يركز بؤرته خلال ساعتين ونصف ـ هي مدة عرض الفيلم ـ على الشهور القليلة الأخيرة، الساخنة والعصيبة، التي تسبق اغتياله.. الفترة التي شهدت انتهاء الحرب الأهلية وإلغاء العبودية.
يتجنب الفيلم عرض كيفية اغتياله في أبريل 1865، بل نسمع عن الحادث من خلال إعلان يقاطع العرض ويذيعه مدير صالة أخرى تعرض مسرحية «علاء الدين والفانوس السحري»، ويشاهدها ابن لينكولن الصبي، الذي ينهار وهو يتلقى النبأ الفاجع.
يبرر المخرج سبيلبرغ سبب عدم تصويره مشهد الاغتيال بقوله «شعرت وفكرت بأنها ستكون اللحظات الوحيدة التي ستترك أثرها على صعيد الأحاسيس القوية، لم أكن أريد مشهد الاغتيال، خاصة لأن مقتله كان الجزء الأكثر إثارة في حياته، والأكثر شهرة في تاريخ أمريكا، والأكثر إهانة وإذلالاً أيضاً».
في الفيلم عدد من اللحظات الحاسمة والخطيرة التي فيها يلجأ لينكولن إلى رواية قصص ذات مغزى ودلالة لكنها أحياناً تربك المستمعين، تحيرهم وتشوشهم، وأحياناً تغوي الذين يعارضون مشيئته وتخضعهم، من جانب آخر، هو يروي نكاتاً طويلة للترفيه عن أولئك المحيطين به، خاصة أثناء حالات التوتر.. فيما يتصاعد استياء لينكولن من الجدل المحتدم بين النواب، هذا الجدل الذي لا يصل إلى ذروة مبهجة ومنعشة.
دانييل داي لويس، الذي برهن في أفلامه، على أنه واحد من أعظم الممثلين في العالم، رغم أن الحالات الدرامية التي تمر بها الشخصية معدودة ولا تتسم بالقوة التي ينشدها عادة الممثل الراغب في التحدي، تحدي نفسه على الأقل، إلا أن لويس يظل آسراً، وقادراً على شد انتباه المتفرج بقوة حضوره وقدراته الاستثنائية، وتوظيفه لطبقات الصوت العالية في محاولة منه للاقتراب من صوت لينكولن الحقيقي.
دانييل جسد الشخصية بقوة وإقناع، ومن غير مبالغة أو استعراض، ونجح في استحضار الشخصية من التاريخ، وجعلنا نرى ـ من خلال لغة الجسد - العبء الثقيل الذي يحمله، ووطأة التاريخ على قسمات وجهه وحركاته ومشيته.
إنه يتخطى الأداء ليكون الشخصية التي يمثلها، متحكماً في الجانب الإنساني للشخصية، والجاذبية والخاصيات التي حولت الشخصية إلى أيقونة في زمنه وأزمان مقبلة، إنه يحافظ على الأبعاد الإنسانية للشخصية عبر الصوت والإيماءة والحركة والمشية بحيث يبعدها عن التنميط والقولبة.
إنه يملك القدرة الاستثنائية على الانسلال في الدور حد الانغمار، تحول كلي ينجزه بطريقة غير زائفة، لا ادعاء فيها ولا تطفل، إضافة إلى مهارته في الإمساك بالخاصيات الشخصية العملية، التي جعلت من الرئيس شخصاً محبوباً، من خلال هذا الأداء، يجعلنا دانييل دي لويس نشعر بأننا أمام رجل بسيط عادي، يجد نفسه مقحماً في وضع أو ظرف استثنائي غير عادي.
درس داي لويس ـ كعادته ـ الكثير من البحوث عن الشخصية، وقرأ الكثير عنها وعن مرحلتها، وزار الأماكن التي عاش فيها لينكولن ليقتـــرب أكثـــر مـــن الشخصيـــــة الحقيقية، وليقنعك عند ظهوره على الشاشة أنك تشاهد الرئيس نفسه.
عن كيفية مشاركة داي لويس في العمل، يقول سبيلبرغ «كان قراري الأول أن أتحدث مع دانييل داي لويس في المشروع، وكان ذلك قبل 10 أعوام، عندها طلب مني دانييل أن يقرأ السيناريو، النص الذي بحوزتي لم يكن على علاقة بالسيناريو الحالي، لم يكن له علاقة بالتعديل 13، كان شبيها بفيلمي (إنقاذ الجندي رايان)».
وأضاف «قرأ دانييل السيناريو وبكل احترام رفض عرضي، كتب لي يومها كلمة قصيرة قال فيها إنه يشعر بالخجل أمام هذه الشخصية، بعد سنوات حصلت على سيناريو توني كاشنر المعتمد الآن فعرضت النص على الممثل ليوناردو دي كابريو الذي قال لي على الهاتف سأعطيك رقماً سجله عندك، سجلته وسألته لمن هو؟ فقال إنه دانييل داي لويس اتصل به».
نجح ستيفن سبيلبرغ في أن يشرك مع لويس العديد من الممثلين الرائعين، الذين أضافوا إلى شخصياتهم عمقاً وبعداً إنسانياً.. بينهم تومي لي جونز الذي قدم دوراً رائعاً ومقنعاً عبر أداء مذهل، مجسداً شخصية الجمهوري الراديكالي ثاديوس ستيفنز، السياسي الماكر، المراوغ، الانفعالي، سريع الغضب، المتقد.. والذي رغم ذلك يُطلب منه أن يبدي الكثير من التواضع والتنازل.
تصوير رائع من جانوس كامنسكي الذي خلق تكوينات داخلية مدهشة معتمداً على الإضاءة في تشكيل الظلال وانعكاسات الضوء، والتي يهيمن عليها اللون الرمادي والبني، محققاً - بعون من مصمم المناظر - إنجازاً تشكيلياً عبر تلاعبات أو تفاعلات الضوء والظل، ونجحا بتقديم المرحلة التاريخية بإقناع من دون مؤثرات زائفة أو متكلفة، تزاوج رشيق ومتدفق للصورة والكلمة.
عن الإضاءة والتصوير، يتحدث سبيلبرغ فيقول «شاهدت عدداً لا يستهان به من اللوحات الفنية لأستقي مصادر الضوء وعلى عكس ما يظن البعض، لم أستعن بالصور الفوتوغرافية، كان السؤال الجوهري كيف نضيء الداخل.. أي داخل المنازل؟ ما هو التوازن بين العتمة والضوء؟ كل شيء انطلق معي من هنا، وهذا جعلني أغير أموراً كثيرة، عادةً تكون الكاميرا أمامي، فأعمل على محاصرة المشهد، والممثلون يتبعون هذا التعديل معي، مع «لينكولن»، كنت في موقع التصوير من دون كاميرا، كان الممثلين معي، أما التقنيون ففي غرفة ثانية، كنت أدرس تنقل الممثلين ووضعية كل واحد بالنسبة إلى الضوء، وحينها كنت أطلب من التقني أن يدخل مع كاميرته، الإخراج حصل بالتدريج وانطلاقاً من الحركة الداخلية للممثلين».
حاز فيلم «لينكولن» على 3 جوائز من نقاد نيويورك أفضل ممثل «دانييل داي لويس»، أفضل ممثلة مساعدة «سالي فيلد»، أفضل سيناريو «توني كوشنر».
وحاز دانييل داي لويس جائزة الأكاديمية البريطانية «بافتا»، فيما فاز بأوسكار أفضل ممثل «داي لويس» وأفضل تصميم مناظر.
وكان داي لويس حصل على الأوسكار الأول له عام 1989 عن فيلم «قدمي اليسرى»، عن قصة واقعية بطلها الفنان الأيرلندي كريستي براون الذي ولد مصاباً بشلل منعه من التحكم في جسمه باستثناء قدمه اليسرى والتي من خلالها نجح في أن يصبح رساماً وكاتباً معروفاً، والأوسكار الثاني عن فيلم «ستكون هناك دماء» 2008 الذي مثل فيه شخصية واحد من أثرياء النفط في أمريكا في بداية القرن العشرين.