كتب - بشار الحادي:
عبد المسيح فتح الله الأنطاكي (1875-1922) شاعر وصحافي يوناني الأصل، سكن أجداده أنطاكية، وانتقلت عائلته إلى حلب في عام 1749، فولد بها، وفي عام 1897 أصدر (مجلة الشذور) ولكن ما لبثت السلطة أن ضيقت عليها الخناق، فأغلقها في السنة التالية، وهاجر إلى مصر، حيث أصدر (الشهباء)، التي غير عنوانها بعد قليل إلى (العمران)، كان رحالة جاب الأقطار العربية، يمدح أمراءها لينال عطاياهم، واشتهرت صلته بخزعل خان شيخ المحمرة خاصة.
أقدم على الكتابة قبل أن يتقن فنون النثر وأوزان الشعر، ولكنه دأب على القراءة وتقويم أعماله حتى استقام أدبه، ودانت له صناعة القلم، ويعد من تلاميذ الكواكبي. نظم (ديوان الخزام) الذي ضم مدائحه، والقصيدة العلوية المباركة من 5595 بيتاً تتبع فيها سيرة الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. ومن كتبه (رحلة السلطان حسين في رياض البحرين)، (الرياض المزهرة بين الكويت والمحمرة)، (النهضة الشرقية)، (نيل الأماني في الدستور العثماني). أما اليوم فنحن مع الرحلة التي أنشأها الأنطاكي إلى البحرين ونشرها في (مجلة العمران) جاء فيها ما نصه.
انتقلنا من لنجة إلى البحرين فسارت بنا الباخرة بمسافة ثمانية وأربعين ساعة وذلك لأن البحر كان مزبداً هائجاً وبلغنا المرسى في الساعة الثامنة من صباح الأحد 9 ذي القعدة سنة 1325هـ (14/12/1907م) ورست بنا الباخرة بعيداً جداً عن المدينة وبالحقيقة إني اضطررت من النزول لهياج البر وبعد السفينة عن البر ولولا صديقي الحاج سالم أفندي المنذراوي الذي كان يلاحظني بسفرتي هذه بكل عناية لكنت عدلت عن النزول وما ذلك مني إلا جبن وخور عزيمة ولله در المتنبي حيث يقول:
وإذا لم يكن من الموت بد
فسواء طوله والقصير
النزول إلى البر
وكان صديقي الحاج سالم المنذراوي أوصى عند نزولنا إلى لنجة أحد المسافرين إلى البحرين أن يخبر صديقه الحاج يوسف كانوا بقدومه إلى لنجة وعزمه على المسير إلى البحرين فلما رست الباخرة لم يتمكن الحاج يوسف المشار إليه من الوصول إلى الباخرة لهياج البحر فأوفد قارباً كبيراً جداً مع بحارة قادرين إلى المركب ووقف ينتظر على المرسى أما صديقي أعزه الله فبحار قادر لا يهاب البحر إذا أرغى وأزبد، خلافاً لي أنا ابن الحضر والترف فكنت لا أفتأ أردد قول المتنبي:
هو البحر خض فيه إذا كان هادئاً
على الدر واحذره إذا كان مزبدا
ومع ذلك فقد سلمت نفسي إلى الأمواج المتلاطمة ونزلت إلى تلك السفينة وأنا أقول:
لا أركب البحر أخشى
علي منه المعاطب
طين أنا وهو ماء
والطين في الماء ذائب
على أني مع ذلك ركبت البحر وقلت بعد التردد الطويل المثل العامي المشهور: الذي له عمر لا تقتله الشدة. سارت بنا السفينة نحو البر وباسم الله مجراها فكانت تعلو بنا على الجبال وتنحدر انحدار الوديان وترشقنا المياه من هنا وهناك ونحن نسأل الله السلامة وما زلنا كذلك نحو نصف ساعة حتى دنت بنا من البر فوقفت بعيداً عنه مقدار عشرين متراً وجيء لنا بحمير ركبناها في البحر فأوصلتنا إلى البر لأن الشط رقيق جداً عند البر بحيث لا يحمل القوارب الصغرى فكيف بالسفن الهوائية التي ركبناها.
يوسف كانو في الاستقبال
وعندما بلغنا البر وجدنا الحاج يوسف أحمد كانو فاستقبل صديقي بترحاب كثير، وعندما عرفني قابلني ببشاشة فائقة الحد، وطلب مني بإلحاح أن أكون ضيفه فأبيت معتذراً لأني قاصد سمو الشيخ عيسى آل خليفة أمير البلاد وبعد اعتذار طويل قبل عذري وأبت مكارمه إلا أن يوصلني إلى القسم الثاني من المدينة حيث يقيم جناب الشيخ المعظم في قصره الشتوي.
مسكن الشيوخ
إن المدينة التي هي عاصمة جزيرة البحرين تقسم إلى أربع أقسام يتخللها البحر فالقسم الذي نزلنا فيه يدعى المنامة والقسم الذي سرنا إليه يدعى المحرق والمسافة بينهما بحراً قطعناها بخمسين دقيقة بقارب يسير بقوة الهواء، وقسم المحرق ناشف حار حسن السكنى في الشتاء، ولم أجد فيه برداً خلافاً لقسم المنامة فإنه كثير الطراوة حتى أني وجدت ترابه مبلولاً، وقيل لي إن ذلك من تأثير الندوة، وعلمت أن سمو المشائخ الفخام يسكنون المحرق شتاء والمنامة صيفاً.
وعندما بلغنا المحرق نزلنا إلى البر بواسطة الحمير أيضاً وكان معي وكيل الحاج يوسف كانوا فحملنا أمتعتي على حمارين وعرض علي الركوب على حمار فامتنعت. وعلى ذكر الحمير والشيء بالشيء يذكر أقول إن الحمير في البحرين كثيرة وهي عالية وبيضاء وسريعة الجري.
أسواق المحرق
سرت في المحرق في السوق أولاً وهي سوق ضيقة ولكنها أجمل انتظاماً وأوسع مذاهب من أسواق لنجة وخرجت منها إلى شوارع حسنة نوعاً وما صرت أمشي بمنعرجات إلى أن بلغت سراي سمو الشيخ عيسى المعظم، وفي الحال أرسلت بطاقتي لسموه وكان في الحرم فأسرع أعزه الله ونزل إلى حجرة الاستقبال ودعاني إليه.
الشيخ عيسى بن علي
دخلت بسراي الشيخ بين العدد الكبير من عبيده الذين كانوا يملئون صحن الدار، وكان بأيدي أكثرهم البزاة والشواهين، وهم يعتنون بهم عناية فائقة للصيد والقنص. ثم دخلت على الحضرة في غرفة متوسطة الحجم مفروشة بالحصر والسجاد، وكان في صدرها سمو الشيخ وكان واقفاً وعندما وقع نظره الكريم علي بادرني بالترحيب ببشاشة وطلاقة عرفت بالعرب الكرام ودعاني للجلوس إلى جانبه. وسمو الشيخ في نحو السبعين من عمره نحيل الجسم قصير القامة ذو لحية قد وخطها الشيب حتى أصبح ليلها نهاراً مضيئاً ذو عينين وقادتين تنبعث عنهما أنوار الذكاء والفطنة.
وأما أنا فبعد أن قبلت راحته الكريمة واستقر بي المقام فتحت (الشنته) فقدمت لسموه تحريرين كانا معي أحدهما من سمو مولاي ولي النعم السيد فيصل بن تركي سلطان مسقط المعظم، والآخر من سمو مولاي الشيخ عبد الله بن عيسى نجل سمو الشيخ فتلاهما وهو يبتسم وقال مثلك لا يحتاج إلى وصاية وأنت في الحقيقة ابننا فشكرت وحمدت واستأذنته بتلاوة قصيدتي التي نظمتها في البحر في مديحه فقلت:
قدوم على عظيم
إلى البحرين سر ولك السرور
هنا لك قد ثوى القمر المنير
هنا لك قد ثوت جمل وأبقت
محبيها وما لهمو مجير
إلى أن قال:
لقد عمت أياديه البرايا
كما عم الفضا المطر الغزير
هو مولاي (عيسى) الشيخ رب الـ
فخار ودهره فيه فخور
هو السند الذي فيه نلاقي
أمانينا إذا ضاع النصير
لقد حكم البلاد بشرع طه
وعنه قد ارتضى طه البشير
إلى آخر الأبيات.
وكان سمو مولاي الشيخ يسمع نشيدي وهو يبتسم ابتسامة الطرب ثم تناول مني القصيدة بعد تلاوتها وقال: أحسنت يا أخ العرب وأجدت، ثم أمر بطعام الغداء وكان الوقت ظهراً فأكلنا هنيئاً وبعد القهوة أمر وكيله أن يوصلني إلى الغرفة التي أعدت لي فودعته شاكراً وسرت فوجدت حوائجي هناك مع الخادم الذي أعد لخدمتي.
مجلس العموم
وفي الساعة الرابعة بعد الظهر دعيت إلى مجلس الحضور وهو مجلس يحضر سمو الشيخ وآل بيته مع عموم الأهلين وذلك مرتين في كل يوم في الضحى وبعد صلاة العصر. والمجلس في سراي خاصة أمام القصر الذي يسكنه سمو الشيخ، وهو عبارة عن غرفة واسعة يتصدر بها سموه مع أصحاب السمو أبنائه وأحفاده، والناس يجلسون من هنا وهناك فيقيم فيها برهة لا تتجاوز النصف ساعة ثم يخرج إلى غرفة القضاء فينظر في أمور الناس وينفرط عقد الاجتماع.
ولي العهد
وبعد أن خرجت من مجلس العموم ترحب بي سمو مولاي الشيخ حمد بن عيسى كبير أنجال سمو الشيخ الحاكم وهو شاب لا يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره ممتلئ الجسم طويل القامة مفتول الساعد ذو لحية كثة شديدة السواد، حنطي اللون له عينان جذابتان ممتلئتان ذكاء، ويدل منظره على الشجاعة والبسالة ويدخل الهيبة على النفوس. وقد ترحب بي سموه كثيراً وسار بي إلى سراياه العامرة، وهي تبعد عن سراي سمو أبيه نحو خمس دقائق وعندما تمثلت بين يديه تلوت القصيدة الآتية، وقد ضمنت أوائل أبياتها هذه الكلمات سمو مولانا الشيخ حمد ولي عهد إمارة البحرين قلت:
سلي المتيم هلا صبره نفدا
فإنما الهجر يوهي الصبر والجلدا
إلى أن قال:
مولاي يا (حمد) المفضال يا سندي
إني اتخذتك يا رب العلا سند
أنت الذي فقت أرباب الذكاء ذكا
وفقتهم في ملاقاة القضا رشدا
إلى آخر الأبيات..
وكان سموه أعزه الله يسمع القصيدة بتحمس الملك، ويهش ويبش طرباً وحبوراً، وعندما انتهيت تناول القصيدة بحبور وتلطف بي ما شاءت مكارمه، ثم أمر بعباءة مزركشة بالقصب فخلعها على كتفي على عادة ملوك العرب، فأنشدت بين يديه مرتجلاً:
مولاي قد زينتني بعباءة
هي للملوك العرب والأمراء
شرفتني فيها على الأقران والـ
انداد والأدباء والشعراء
فاغنم فديتك شكر داع مخلص
واسلم إلى الإسلام كل دعاء
فازداد سموه حبوراً وتلطفاً بي ثم تناولنا أطراف الحديث عن كل قديم وحديث، فإذا سموه على جانب عظيم من الذكاء ثم استأذنت وانصرفت.
التجوال في المدينة
وفي اليوم التالي تكرم سمو مولاي الشيخ حمد ولي العهد فأوفد سمو ابن عمه ووزيره الشيخ عبد العزيز إلي مستفسراً عن صحتي، ثم اصطحبني إلى المدينة فتجولت في أسواقها وشوارعها فإذا هي مدينة واسعة يبلغ عدد سكانها نيف وعشرة آلاف نسمة، وأكثر بناياتها ذات دور واحد إلا قصور الأمراء فإنها ذات دورين وأسواقها واسعة عامرة وما زلنا نتجول في جنباتها إلى الظهر ثم عدنا إلى القصر وتناولنا طعام الغداء في غرفتي.
منتزه الشيوخ
وفي الساعة الرابعة بعد الظهر أوفد إلي سمو مولاي المعظم الشيخ عيسى يدعوني لحضرته فأسرعت ملبياً فجلست بحضرته السنية برهة ثم سرت بمعيته على الحمير إلى منتزه الشيوخ، وهو عبارة عن حديقة في شمالي المدينة وصلناها في نحو خمسة عشر دقيقة، وفيها أشجار النخيل والبرتقال والنفاش، وتسقي من بئر غير عميقة، وهي غير واسعة، ويتلوها البحر، وهكذا كانت بلدة المحرق جزيرة قائمة بنفسها، وعند الغروب عدنا إلى المدينة فتناولت طعام العشاء على مائدة سمو الشيخ المعظم وبعد العشاء حضر سمو الشيخ حمد ولي العهد وسمو الشيخ خليفة بن المرحوم الشيخ سلمان بن عيسى حفيد سمو الشيخ فسمرنا برهة من الليل ثم انفض الاجتماع وعدت إلى غرفتي معجباً بالأخلاق العالية المزدان بها هؤلاء الشيوخ العظام رعاهم الله.