كتب - علي الشرقاوي:
عندما تتكلم عن فنان مميز مثل مبارك نجم، فأنت تحتاج إلى التوقف عند عطاءاته وما قدمه من أعمال لحنية مغايرة في الساحة الغنائية، وما تفرد بها عمن سبقوه وعاصروه.
تحتاج أيضاً أن تعود بالذاكرة إلى سنوات بعيدة، قد تكون في امتداد بداية تجربتك الحياتية أو الفنية، فبعض التجارب من الاتساع بحيث يجد المتحدث عنها شيئاً من الصعوبة في ربط حبالها التي هرب البعض منها من خارطة الذاكرة.
الصعوبة في أن تطرح التجربة كما ينبغي لها أن تكون، خاصة أن شيئاً من تجربتك الفنية، وبالذات في مجال الكلمة المغناة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتجربة مبارك نجم.
العود يفضح مبارك الصغير
في صيف 1969، بعد عودتنا من بغداد في الإجازة حيث كنت أدرس تقنية التحاليل المخبرية في معهد المهن الصحية في الكرخ، وراشد نجم عبدالله كان يدرس في كلية الآداب.
دعانا راشد إلى وليمة غداء في بيتهم الكائن في فريج المري، وهناك تعرفنا على بعض إخوانه وكان منهم مبارك الصغير، الذي ربما كان حجم العود أكبر من جسمه في تلك الفترة، إن طريقة مسكه للعود واحتضانه له، في تصوري، كانت ترسم طبيعة العلاقة بين الإنسان والآلة وبالتالي بين الفاعل وأداة الفعل. كان مبارك يحتضن العود كما يحتضن الحبيب محبوبته، هكذا كانت علاقة مبارك وعوده كما رأيتها منذ تلك الفترة، في هذه الجلسة القصيرة استمتعنا بعزف مبارك على العود وشعرت أن هذا الولد الصغير سيكون له شأن كبير في قادم الأيام.
سلوا عني سيف القدر
راشد لم يستطع إن يواصل دراسته في بغداد بسبب ظروف خاصة، واضطراره للقيام بمهمة العمل على رعاية إخوانه، لذلك انقطعت السبل بيننا، وعرفت من راشد أن مبارك ذهب لدراسة الموسيقى في القاهرة، فرحت لأن الإنسان عندما يذهب لحلمه يرى هذا الحلم متحققاً في يوم من الأيام.
بعد فترة سمعت أغنية جميلة من كلمات راشد نجم وألحان مبارك نجم وغناء جعفر حبيب، كانت الأغنية بالنسبة لي تشكل اتجاهاً جديداً في طبيعة الأغنية البحرينية، واستطاعت تلك الأغنية إن تشكل لها صدىً واسعاً لدى المتلقين، واستطاع الأخوان نجم أن يلعبا دوراً جميلاً في الساحة الغنائية البحرينية لفترة من الوقت.
الطالب مبارك نجم لم يكتف بالدراسة الأكاديمية في معهد الكونسرفتوار، بل استطاع وهو في المعهد أن يقدم مجموعة من الألحان للعديد من المغنين الشباب والمطربين، كان منهم الفنان أحمد الجميري.
مبارك والشيلات الوطنية
عندما سمعت الأعمال القصيرة التي تسمى الشيلات أو المسجات أو البرقيات والتي قدمها مبارك نجم لتلفزيون البحرين وبمصاحبة الأطفال، شعرت أننا بالفعل بدأنا في معرفة التعامل مع الأغنية الوطنية، وأننا نحتاج إلى هذا اللون من الأغاني تعلق بالذاكرة وتأخذ لها مكانها المناسب في خارطة الذاكرة الشخصية لكل طفل من أطفالنا العطشى لمثل هذا النمط من الأغاني، باعتبارها طاقة روحية إيجابية تمد الإنسان بالرغبة في زرع روح المحبة بين الناس.
وفي تصوري أن أغنية «أم المليون نخلة عرفتوها... عرفتوها» كانت أغنية لا يمكن أن تغيب عن الذاكرة البحرينية لعدة أجيال، فهي اعتمدت البساطة في اللحن والكلمة وسهولة الأداء، ما يعني أنها سريعة الحفظ والفهم والوصول.. وكان أداؤها الجميل عبر مجموعة الأطفال ساهم في أن يجعلها أغنية طفلية وطنية بحق.
وقدم مبارك للتلفزيون مجموعة كبيرة من الشيلات، ضمنها بعض الشيلات من كلمات علي الشرقاوي، إلا أنها ضاعت في مخازن التلفزيون، هذا إن لم يسجل على أشرطتها كما نسمع بين يوم وآخر.
العلاقة مع مبارك نجم
ربما غابت عن ذاكرتي زهيرات تلك الفترة التي اتفقت فيها مع مبارك نجم على العمل معاً في بعض تجارب الأغنية، ولكن الذي أذكره جيداً أن العلاقة الحقيقية بدأت بعد عملي مع يعقوب يوسف في مسابقة «غناوي بوتعب» من إخراج أحمد المقلة وسيناريو راشد الجودر وتصوير عبدالرحمن الملا، وكانت عبارة عن مجموعة أغاني فردية وجماعية عن المهن والحرف الشعبية في البحرين حيث أنتجها التلفزيون كمسابقة لشهر رمضان.. وهي في تصوري كانت أول تجربة شبه درامية غنائية استعراضية قصيرة يدخلها التلفزيون، وكانت التجربة ناجحة، لذلك أراد أن يكررها التلفزيون بعد أن لاقت الصدى الطيب من جمهور المشاهدين.
في السنة الثانية تقدم مبارك نجم إلى التلفزيون بمشروع لمسابقة رمضان عن الأزياء الشعبية، وتطور المشروع من خلال النقاش بين مبارك وعلي الشرقاوي وأحمد المقلة وراشد الجودر إلى تحويل المقترح إلى كتابة سيناريو عن الأدوات الشعبية، ووافق الجميع على الاقتراح بتسمية العمل «البيت العود».
وعمل مبارك على إعطاء الروح الشعبية من خلال الاستفادة من أغلب الألحان القديمة وتوظيفها لصالح العمل المقدم، وابتكار الجديد من الألحان تناسب مع ما أراد أن يطرحه العمل، وساهم في كتابة بعض الحلقات كل من راشد نجم وإبراهيم الأنصاري.
مسابقات رمضان تتسامق
المقلة والجودر والشرقاوي ومبارك نجم شكلوا فريق عمل جيد لمسابقة تلفزيون البحرين، حيث توصلوا معاً لخلق خلطة فنية عامرة تقارب المائدة الرمضانية فيها الدراما والميلودراما والأغنية والرقصة الاستعراضية والكوميديا.
وكان نجاح العمل الدرامي «البيت العود» كمسابقة أعطت الفرصة لفريق العمل للتقدم بمشاريع جديدة للسنوات الأخرى، فكانت مسابقة «فرجان لول» و»حزاوي الدار» من الأعمال التي أدهشت المشاهد البحريني ودول مجلس التعاون، واستطاعت هذه المسابقات أن تسرق المشاهدين من القنوات الخليجية وتسمرهم أمام قناة تلفزيون البحرين.
الجميل في تلك الأعمال أن الجميع اشتغل فيها ليس بصورة فردية، إنما كفريق عمل متكامل، ولا أنسى أننا كنا كثيراً ما نسهر بعض الأحيان إلى ما بعد السحور من أجل الانتهاء من الأغنية، حيث كنت أكتب ومبارك يلحن والكورال والإيقاعات يعملون في نفس الوقت، وما أن تنتهي الأغنية حتى ترسل إلى المخرج أحمد المقلة ليخرجها في الوقت الذي كان يعمل جاسم الحربان وفرقته على إنجاز الرقصة المصاحبة للأغنية.
أذكر أن مبارك نجم شرع بإصدار شريط غنائي خاص به وتحمست للفكرة، من أجل أن يوقف عملية الصراع الدائر رحاها في داخله، ورأيت أنه من المناسب أن يتخلص من هذا الصراع ليعرف أين يضع أقدامه مستقبلاً، إضافةً إلى أن الملحن من الممكن أن يكون إحساسه بالكلمة الغنائية أقوى من المؤدي، وبلحنه من الممكن أن يصل مباشرة إلى المتلقي، وبالفعل نصحته بتسجيل الأغاني بصوته، قبل أن يصدر الشريط وينزله إلى الأسواق، عليه أن يسمع أداءه مجموعة من الفنانين البعيدين عن المجاملة ممن يثق بأحكامهم النقدية، فإذا قالوا لا تنزل بصوتك، عليه التوقف دون الاهتمام بخسارة تسجيل الصوت والتوقف حالاً عن مشروع الغناء وعليه أن يقدم الألحان إلى مغنٍ أو توزيعها إلى مجموعة من المغنيين.
لا أعرف إن أخذ بالنصيحة أو تجاهلها، المهم أن الشريط نزل إلى الأسواق، بتجارب لحنية جديرة بالتوقف، لجدته في الساحة الخليجية إلا أنه لم يجد أي تجاوب معه كمغنٍ.
الأخوان معاً
تقول وزارة الإعلام في مقدمة كتاب الأوتار سلم المايسترو «عرف الجمهور البحريني مبارك نجم في ثلاثة عقود من الزمان، ملحناً يحول كلمات الأغاني، التي كان يكتبها شقيقه الباحث د.راشد نجم، إلى أغنيات شعبية عذبة يتغنى بها نخبة من المطربين البحرينيين، ممن أحدثوا نقلة نوعية في تطور الأغنية البحرينية المعاصرة، ويلحن الافتتاحيات الغنائية لعدد من المسرحيات المعروفة التي قدمها مسرح أوال مثل «السالفة وما فيها» و»أنا وأنت والبقرة» و»ح. ب».
وعرف الجمهور مبارك وهو يبدع ويتألق في المسلسلات الدرامية التراثية مثل «البيت العود» و»فرجان لول» و»حزاوي الدار» إضافة إلى إبداعه في تلحين مقدمات ونهايات البرامج التلفزيونية مثل مسلسل «سرور»، فيعيد للناس كبيرهم وصغيرهم صياغة الجمل الموسيقية التراثية والإيقاعات الشعبية والأغاني التي كادت أن تندثر من المخيلة الشعبية ويضيف إليها إبداعاته في التلحين والتوزيع والأداء، لتعكس قرب هذا الفنان والتصاقه الحميم بالتراث البحريني الأصيل.
وعرف الجمهور مبارك نجم قائداً موسيقياً بامتياز لفرقة موسيقى الشرطة والأمن بوزارة الداخلية، يؤلف لها المارشات العسكرية، ويلحن مجموعة من الأغاني الوطنية القصيرة والتي أطلق عليها شيلات وطنية، حظيت بالشهرة والاهتمام على المستوى الشعبي، ولم يتوقف طموحه عند هذا الحد، بل أخذ يشارك بالفرقة الموسيقية العسكرية في المهرجانات العالمية ويحصد الجوائز في هذه المشاركات.
وأخيراً عرف الجمهور مبارك يحقق حلمه في معهد البحرين للموسيقى ليأخذ على عاتقه تدريس وتدريب المواهب الجديدة، ويقدم إبداعاتها في حفل المعهد السنوي ويوفر لها كل أسباب النجاح والاستمرارية.
راشد يكتب السيرة
يقول المؤلف د.راشد نجم في تمهيده لكتابه «الأوتار سلم المايسترو» إن «هذا الكتاب هو محاولة متواضعة لقراءة مشوار حياة الفنان والموسيقار مبارك نجم الممتدة لأكثر من 30 عاماً، عبر محطات متعددة ومؤثرة في هذا المشوار، تستوجب الوقوف عندها والتعرف على أهم إشاراتها وإبداعاتها، بدءاً من المرحلة الإعدادية التي شكلت وهج البدايات الأولى للاهتمام بالموسيقى وتلحين الأغاني وانطلقت منها شهرته المحلية والخليجية، مروراً بمراحل التحصيل الأكاديمي في القاهرة وبريطانيا والتركيز المكثف على اهتمامه بالتأليف الموسيقي أكثر من التلحين، ثم إضاءة لأهم الأعمال الموسيقية من أغان وأوبريتات موسيقية والمشاركة في تلحين الأعمال الدرامية التراثية التي تميز بها وترك بصمة متميزة في هذا الجانب.
أول لحن وأول أغنية
يضيف راشد نجم عن تجربة مبارك «كانت أول أغنية سجلت من ألحان مبارك في القاهرة مع الفرقة الماسية عام 1972 عندما كان مبارك في الصف الأول ثانوي وهي أغنية «حناج ورق»، وهي من كلمات راشد نجم وغناء الفنان يعقوب بومطيع كأول عمل خاص به.
ويقول الباحث نجم «رغم أن اللحن مستمد من أغنية شعبية معروفة، إلا أن الجمل اللحنية المضافة والنص الغنائي المختلف والصوت الجديد الذي يغني لأول مرة، حظي بقبول طيب من الناس وجعلهم يرددونها ما منح الأطراف الثلاثة الصانعة للأغنية فرصة البروز خاصة للملحن الذي أعلن ميلاده الفني بهذه الأغنية».
المقلة يقيم أعمال نجم
بعد «البيت العود» أول عمل درامي يخرجه المقلة، يقول المخرج البحريني الكبير «جاء «فرجان لول» و»حزاوي الدار» تلك الأعمال التي تميزت بموضوعاتها القريبة من وجدان المشاهد الخليجي، وتميزت بأغانيها وموسيقاها التي أبدع مبارك نجم في تقديمها كمادة تراثية دسمة، صحيح فيها من الإبداع والخلق والإضافة الكثير، ولكن لا يمكن فصلها عن الأغنية التراثية، ليس نقلاً أو تقليداً، إنما إبداعاً مستمداً من روح التراث، ومن وجهة نظري ما قدمه مبارك في تلك الأعمال، يضاف لرصيد الأغنية التراثية، وكذلك الموسيقى التصويرية التي قدمها في تلك الأعمال صارت تميز معظم الأعمال التراثية التي أنتجت فيما بعد في المنطقة، وكأنه وضع شكلاً للموسيقى في الأعمال التراثية».
أهازيج نجم يرددها الصغار
يقول الفنان حسن كمال «ظل الفنان مبارك نجم يتعلم ويعلم ويبدع بين فترة وأخرى ألحاناً ومقطوعات قصيرة جميلة، كتلك الأهازيج التي لحنها لطلبة المدارس والمتغنية بحب الوطن، ولاتزال تتردد على ألسنة الصغار وتستهوي الكبار، ولحن من كلماتي بعض الأناشيد والأغاني الوطنية التي اعتز بها».
أما الباحث محمد جمال فيرى أن أساليب مبارك نجم في التلحين مرتبطة أساساً بالبيئة الشعبية، لذلك كانت لألحانه الموسيقية أو الغنائية نكهة خاصة ومميزة تختلط فيها الجملة الموسيقية، بذلك العبق الذي لا يخطئه الأنف وأنت تمشي في دواعيس المحرق في يوم صيفي حار تسمع في الكمان آهات النهام وفي الأوركسترا صدى البحارة وفي الكورال ندات الباعة.
ويروي د.راشد نجم مؤلف الكتاب عن تجربة مبارك الغنائية الوحيدة «في هذا الشريط نجد مبارك لا يقدم أغاني كالأغاني المألوفة لدينا، بقدر ما يقدم نماذج غنائية جديدة، مثلاً أغنية «ناس» التي كتبتها وهي أغنية تعتمد على أداء المجموعة في القيام بدور الآلات الموسيقية، إذ لا يوجد في هذه الأغنية أية آلة موسيقية أو إيقاعية، كذلك هناك تجربة أخرى في عدم الاعتماد على الآلات الوترية والاستعاضة عنها بآلات أخرى تقوم مقامها».
ويضيف أن «مبارك حاول في هذا الشريط تغيير المفهوم الخاطئ عن «الكورال» في الأغنية، والذي عادة ما يكون مردداً لمقاطع يغنيها المطرب، ليصبح مشاركاً فعالاً ومميزاً، حتى أنه كان يؤدي مقطعاً كاملاً من الأغنية».
«أحبك في السما نجمة ظهر»
الشاعر علي عبدالله خليفة يتحدث عن تجربته مع مبارك «لي شخصياً تجربة فريدة اعتز بها في تلحين موال «أحبك في السما نجمة ظهر تمشي على بالي» أحد مواويل مجموعتي الشعرية «عطش النخيل» الصادرة في 1970، والذي غناه جعفر حبيب عام 1979، وأحسست حين سماع الأغنية لأكثر من مرة أن الملحن تفاعل مع النص، وتفهم بعده العاطفي وتمثله تمثلاً جيداً وعميقاً، جاوز الأسلوب التقليدي المتبع محلياً في أغنية جميلة بلحن جديد وأداء موفق وبصوت مدرب، تقوم على الاشتراطات الثلاثة المتوازية والمتوازنة ألا وهي الكلمات واللحن والأداء وبدا لي أن هذا شأن الفنان مبارك نجم مع بقية النصوص الناجحة التي تولى تلحينها وأخذت طريقها إلى الذيوع، ناهيك أن أعماله العديدة التي لم يكتب لها أن ترى النور حتى الآن وأظنها كثيرة».
تجربة مبارك من التجارب اللحنية المميزة والخصبة والجديرة بالتوقف عندها، لأنه قدم للبحرين عشرات الأغاني من الممكن أن تكون محطات في تجربته اللحنية الممتدة أولاً ومحطات أيضاً في التجربة اللحنية البحرينية، هذا إن لم نقل على مستوى الخليج العربي.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}