إعداد ـ إبراهيم راشد الدوسري:
رحلت بهدوء كسحابة صيف.. أغدقت أمطارها العذبة وتلاشت في بياض النور.. رحلت دون ضجيج مثل حكيم همس بأسرار المعرفة لمريديه وعشاقه وغادر صومعته وأبحر إلى أرض الله الواسعة.. ذهبت كفراشة حسناء بعد أن ضمت بجناحيها كل زهور الأرض وألقت على وريقاتها ألوانها الرائعة.. ثم ارتفعت خيوط ضوء شمس أحد الصباحات الندية وسافرت في الكون الفسيح. هكذا كانت الرائدة الإعلامية كريمة زيداني.. نوع نادر من البشر، أعطت دون كلل أو ملل.. شخصية امتزجت فيها البساطة والثقة بالنفس، العفوية والذكاء الاجتماعي والمهني، الرقة والقدرة على استخدام كل ما تراكم من خبرات السنين، بتجربة امتدت لـ40 عاماً في الحقل الإعلامي الإذاعي والتلفزيوني. كانت من أشهر المذيعات الخليجيات والعربيات، لحضورها اللافت وصوتها المميز في شاشة تلفزيون البحرين منذ منتصف السبعينات، وكانت أصغر مذيعة خليجية بعمر لا يتجاوز 15 عاماً.
اللقاء مع الإعلامية الراحلة كريمة زيداني أجري معها عام 2009، ضمن برنامج «صواري الثقافة» في إذاعة البحرين، من إعداد وتقديم إبراهيم الدوسري وإخراج محمد الجابر.

*كيف كانت ظروف التحاقك بوزارة الإعلام وتحديداً تلفزيون البحرين؟.
عملت مذيعة في تلفزيون البحرين منذ منتصف السبعينات وكان عمري آنذاك 15 سنة، اليوم استغرب كيف عملت مذيعة وأنا في هذا العمر.. وأنا طالبة لم يكن الإعلام رغبتي، كان الطب هاجسي وطموحي.. كنت طالبة متفوقة جداً ومن الأوائل على مستوى مدارس البحرين حتى المرحلة الثانوية، نشأت في أسرة متعلمة ومثقفة.. كان الوالد حاصل على درجة الدكتوراه في إدارة المستشفيات ووالدتي ممرضة وقابلة قانونية.
الوالد كان يشدني بأحاديثه ومعلوماته عن الأمراض وأنواع الأدوية، وأنا طفلة حفظت أسماء الأدوية من أبي، ما شجعني أن أطمح لأكون طبيبة مستقبلاً، حتى أن الأقارب والأصدقاء عندما يزوروننا في البيت يندهشون عندما أحدثهم عن الأدوية وأسمائها وأتحفهم بمعلومات طبية غنية، وظل هذا الطموح هاجسي حتى الثانوية.

*ما ذكرياتك عن الدراسة؟.
كنت طالبة هادئة ومجتهدة، أجلس في المقاعد الأمامية دوماً حتى أستطيع التركيز أثناء الشرح، كانت لدي اهتمامات وأنشطة ثقافية وإعلامية في كل المدارس، حيث تكلفني المدرسات بقراءة الكلمات في طابور الصباح وعبر الإذاعة المدرسية، كنت أشارك أيضاً في النشاط التمثيلي بالمدرسة، وأكلف بأدوار الإلقاء والأداء اللغوي لصوتي المميز، وإتقاني القراءة السليمة للغة العربية، وكنت أشارك أيضاً في استعراضات عيد العلم في أواخر الستينات وبداية السبعينات.

*هل هناك مدرسات أثرن في مسيرتك الدراسية؟.
أغلب المدرسات في عقد الستينات من الجنسيات المصرية والفلسطينية واللبنانية فضلاً عن المدرسات البحرينيات الفاضلات، وأذكر منهن أمينة الصالح، تعلمت منها الكثير وأسعد حين أجري معها لقاءات إذاعية وتلفزيونية ونتذكر سوياً مراحل الدراسة، وكم يسعدني أنها فخورة بي كطالبة من طالباتها.
في تلفزيون البحرين
*كيف بدأت العمل في تلفزيون البحرين؟.
تجربة تلفزيون البحرين لم يكن مخططاً لها، كنت أرغب بعد التخرج من التوجيهي دراسة الطب، لكن الوالد رفض سفري إلى خارج البحرين للدراسة وأقترح دراسة الهندسة في كلية البحرين الجامعية.
لم أرغب في الهندسة ولكن لا بديل فقبلت مرغمة، وكي أثبت لنفسي أولاً وللأسرة ثانياً أني طالبة متفوقة، استوعبت تخصص الهندسة ودرست واجتهدت وتفوقت.
كان الوالد يقول لي تخفيفاً عن حرماني دراسة الطب، إنه يجب علي مواصلة دراسة الهندسة لحين توفر الظروف المناسبة لدراسة الطب، وهدفه أن أنسى دراسة الطب لأنه لا يتحمل أن أسافر وحدي للدراسة خارج البحرين.
في أحد الأيام ونحن نتابع تلفزيون البحرين، ظهر إعلان عن حاجة التلفزيون لمقدمي برامج من الجنسين، قلت للوالد «يا ليت أكون مذيعة في تلفزيون البحرين على الأقل هذا المجال يعوضني عن الطب»، كنت أيضاً أعشق النشاط الإعلامي منذ أيام الدراسة.

*ماذا فعل الوالد لتحقيق هذه الرغبة؟.
تحمس الوالد لرغبتي كمذيعة في تلفزيون البحرين، في اليوم التالي أخذني إلى مبنى التلفزيون وقابلنا المدير آنذاك عبدالله المقلة، وطلب منه أن أعمل مذيعة في التلفزيون، ولكن المقلة قال لوالدي إني صغيرة على المهنة، حيث كنت في الخامسة عشرة، وسنة أولى في جامعة البحرين.
المهم الوالد طلب من المقلة اختباري، كان واثقاً بقدراتي الإعلامية، وبعد الامتحان وافق المقلة على تعييني مذيعة في تلفزيون البحرين ولكن بشرط التوفيق بين العمل والدراسة.
أصغر مذيعة
*كيف كانت بدايات عملك كمذيعة؟.
كنت أصغر مذيعة في تلفزيون البحرين، ولكن موهبتي الإعلامية ميزتني منذ البداية، لم أتفرغ للتدريب سوى ثلاثة أيام فقط وفي اليوم الرابع كلفت بتقديم استعراض لبرامج التلفزيون، وهذا يعتبر عمل متقدم لمذيع جديد، عادة يظل المذيع الجديد أشهراً حتى يكلف بمهمة الربط في البرامج التلفزيونية.
في اليوم السادس كلفت بقراءة الأخبار المصورة على الهواء مباشرة، وهذا أيضاً إنجاز كبير لمذيعة في سني، ثم توالت الأعمال والمشاركات حيث قدمت برامج منوعة وحفلات كانت تنظمها وزارة الإعلام، وخلال فترة قصيرة أصبحت مذيعة معتمدة.

*من سبقك من المذيعات في العمل بتلفزيون البحرين؟.
من المذيعات أذكر الفنانة القديرة لطيفة مجرن ووداد الموسوي والسفيرة إيلي سمعان وفاطمة عبدالله، ومن المذيعين خليل الذوادي والراحل عاطف السلطي وخليل إبراهيم وخليل يوسف وإبراهيم عبدالكريم.
أبرز البرامج التلفزيونية
*ما هي أبرز البرامج التلفزيونية التي قدمتها وشاركت بإعدادها؟.
شاركت في تقديم العديد من البرامج التلفزيونية منذ بداية عملي، ومنها برنامج «مجلة التلفزيون» وكان يتضمن العديد من الفقرات الفنية والثقافية والاجتماعية يشارك في تقديمها عدد من المذيعين، وبرنامج آخر بعنوان «ألو»، أول برنامج بحريني خليجي يبث على الهواء مباشرة من إعداد المخرج حسن عيسى وكنت أشارك بتقديمه وإعداده.
وللبرنامج حكاية كان خليل الذوادي مديراً لتلفزيون البحرين آنذاك، وعرضت عليه فكرة البرنامج في البداية لم يوافق، كان يخشى من الأخطاء الفنية والموضوعية، باعتباره أول برنامج يُبث على الهواء مباشرة عبر تلفزيون البحرين، ولكن بعد مناقشة الفكرة وأسلوب الإعداد والتقديم وافق، مع التأكيد على دقة التحضير والإعداد للبرنامج من جميع الجوانب.
فعلاً بث البرنامج دون أخطاء ما أسعد خليل الذوادي وكل الأخوة الفنيين العاملين، خاصة بعد أن حقق نجاحاً باهراً في الأوساط الجماهيرية البحرينية والخليجية، وكان من أفضل برامج تلفزيون البحرين في منتصف الثمانينات.

*ما أبرز فقرات برنامج «ألو»؟.
كان برنامج «ألو» يشمل مسابقات وجوائز ولقاءات مع فنانين من كل أرجاء الوطن العربي، كان برنامج جماهيري يقدم الفقرات المشوقة والمعلومة النافعة.
واصلت تقديم وإعداد الكثير من البرامج المنوعة، وشاركت زملائي إعدادها، وفي أواخر الثمانينات أصبحت أعد برامجي الخاصة وأقدمها أيضاً، ومنها برنامج «المشاهد مع التحية»، وهو برنامج منوع يشمل أخباراً فنية وأغاني منوعة وخواطر ولقاءات وفقرات حوارية.
مواقف تلفزيونية
*هل واجهت مواقف محرجة أثناء تقديمك برنامجاً على الهواء مباشرة؟.
تحدث أحياناً أخطاء فنية داخل الاستوديو وأثناء تقديم البرامج المباشرة، مثلاً قد ينطفئ أحد مصابيح الإضاءة فجأة، أو يكون المتصل عصبياً في طرحه ويتفوه بعبارات غير لائقة أو يتهجم على أحد المتداخلين، كل ذلك أحاول أن أتعامل معه بلباقة وهدوء أعصاب، لأن المذيع الواعي والمتمكن من دوره ومهنته الإعلامية يجب أن يتوقع مثل هذه المواقف أثناء تقديمه البرامج المباشرة.. المشاهدون ليسوا على ذات السوية في السلوك والثقافة.. على المذيع الاستعداد قبل بدء بث البرنامج والتحلي بالصبر وهدوء الأعصاب والاتزان والعدالة في توزيع الأسئلة على الضيوف إذا كان البرنامج حوارياً.
من المواقف المحرجة والمضحكة في آن دخول قطة أو فأر ـ لم أعد أذكر ـ داخل الاستوديو، هذا حصل معي وكنت أخشى هذه الحيوانات ولكني ضبطت أعصابي.
التبادل الإعلامي
*كنا نشاهدك في الثمانينات تقدمين البرامج والأخبار في تلفزيونات الكويت وعمان، وكان البعض يظن أنك غادرت تلفزيون البحرين.. ما القصة؟
لم يحدث أن انتقلت للعمل في أي تلفزيون خليجي، هذا ما يسمى التبادل الإعلامي، هناك تبادل للمذيعين من أجل التعاون الإعلامي والاستفادة من الخبرات، حيث يرسل كل بلد خليجي مذيعيه إلى تلفزيونات الدول الشقيقة وكذلك تفعل البحرين، وهذا التبادل كان له مردود جيد على المذيعين، فهو يصقل خبراتهم الإعلامية ويجعلهم يطلعون على تجارب الدول الأخرى، فضلاً عن انتشار اسم المذيع وزيادة شعبيته على مستوى الخليج عامة.
الإعلام والشهرة
*ماذا أضافت لك شهرتك الإعلامية خاصة وأنت مذيعة بحرينية مميزة على مستوى الخليج؟.
أضافت لي الشهرة محبة الناس، وساهمت في نضج شخصيتي وفي الحقيقة يسعدني الإطراء والمديح وأشعر أني قريبة من الناس مع أني خجولة وهادئة منذ الصغر، وكان الأهل والصديقات يعتقدون أني سأصبح طبيبة ولكن أحمد الله أن عوضني بالعمل الإعلامي، فالإعلام أيضاً مهم في حياة الناس، لست نادمة على خياري.

*هل تلقيت أي دورات في مجال الإعلام؟.
في بداية عملي في تلفزيون البحرين منتصف السبعينات لم يكن هناك أي دورات إعلامية، كل المذيعين تقريباً ممن سبقوني لم يكونوا مختصين في حقل الإعلام.
كانت الموهبة والاستعداد الفطري هي أساس النجاح الإعلامي وأيضاً التعلم من الأخطاء والاحتكاك بأصحاب الخبرة، والعمل المتواصل في مختلف البرامج والقراءة المستمرة، كل هذا كان له أشد الأثر في صقل موهبتي الإعلامية.. هناك أشخاص يتخرجون من كليات الإعلام ولا تتوفر لديهم الموهبة فلا يكون لهم الأثر الإيجابي في مجال الإعلام.. الكثير منهم ينسحب، لأن الإعلام ليس بالمهنة السهلة فهو يحتاج إلى ذكاء اجتماعي وثقافة عامة ووعي والأساس الموهبة الحقيقية.
الطريق إلى الإذاعة
*متى انتقلت إلى إذاعة البحرين؟.
عملت في تلفزيون البحرين 10 سنوات متصلة، وكان سبب انتقالي للعمل مذيعة في إذاعة البحرين حسن كمال.. كان حينها مديراً لإذاعة البحرين، طلب مني العمل في الإذاعة إضافة إلى عملي في التلفزيون، وفي الحقيقة العمل في الإذاعة أصعب من التلفزيون لأن الإذاعة تعتمد على الصوت فقط.. المستمع يتوقع من المذيع أن يكون صوته قريباً من القلب.. وفقت في عملي الإذاعي بتعاوني مع جميع الزملاء من مذيعين ومخرجين ومعدين.

*ما هي هواياتك واهتماماتك الشخصية خارج نطاق العمل الإعلامي؟.
هواياتي بسيطة لأن عملي الإعلامي يأخذ مني الوقت الطويل في الإعداد والتحضير والانهماك في العمل بين الإذاعة والتلفزيون، ولكن ظلت هوايات محببة إلى نفسي لا زلت أمارسها بمتعة فالقراءة المتنوعة تعتبر من أهم الهوايات القريبة إلى نفسي فلدي قدرة على القراءة السريعة، وأهوى الطبخ وأجيد إعداد الأطباق المختلفة وأنواع الحلوى.

*كلمة أخيرة توجهينها للمذيعين والمذيعات الجدد؟.
يجب أن يتحلى المذيع بالصبر والجرأة في ابتكار الأفكار الجديدة للبرامج النافعة، وأن يستمر في تطوير قدراته وتعزيز مهاراته الإعلامية وأن يعرف معرفة واعية الفرق بين أدوات المذيع التلفزيوني والإذاعي، ولا بد أن يهتم بتحسين معرفته باللغة العربية والإلقاء السليم وتصحيح مخارج الحروف لديه، ما يعزز ثقته بنفسه ويصل إلى قلوب وعقول الناس، والأهم أيضاً أن يتحلى بالأخلاق الحسنة والسمعة الطيبة لأن الإعلامي قدوة للشباب، وأن يهتم كل إعلامي بوعيه الثقافي من خلال القراءة والاطلاع والاحتكاك والاقتداء بكبار الإعلاميين ودراسة سيرهم وكيف وصلوا إلى ماصلوا إليه.