كتب ـ أمين صالح:
حقق المخرج الإسباني لويس بونويل فيلمه «الملاك المدمر» عام 1962، وعنه يقول بونويل «إذا بدا لكم الفيلم غامضاً، ملغزاً، أو متناقضاً، فذلك لأن الحياة كذلك».
تولدت فكرة الفيلم -كما قال ابن بونويل خوان- من لوحة ثيودور جريكول الشهيرة «طوف ميدوزا» 1819، حيث المخلوقات اليائسة والعاجزة يكونون أسرى بحر يعذبهم بالجوع والعطش.
كتب بونويل سيناريو الفيلم عن قصة ألفها مع لويس ألكوريزا، وبهذا الفيلم -المصور بالأسود والأبيض- يعود بونويل إلى الاتجاه السوريالي الذي حاد عنه بعد «العصر الذهبي»، حيث الروح الفوضوية تتمازج على نحو فريد بالدعابة والتراجيديا والعنف، وحيث المزيج الأسلوبي للواقعي والسوريالي.
الفيلم أشبه بحلم، حيث العديد من الأشياء الغريبة، المدهشة، المفاجئة تحدث من غير أن يوجد لها تفسير.. ويصفها بونويل «صوره تشبه الصور في حلم ما، إنها لا تعكس الواقع بل تخلقه».
تدور الأحداث في موقع محدود، مع انتقالات وجيزة إلى خارج المنزل، وتتماثل حبكة الفيلم بعض الشيء مع حبكة مسرحية جان بول سارتر «لا مَخرج» المكتوبة عام 1944، وإن اختلفت عنها فلسفياً.
في مسرحية سارتر، نتابع ثلاث شخصيات ميتة تجد نفسها محتجزة معاً في حجرة واحدة، وتدريجياً تكتشف أن قدرها أن تظل معاً إلى الأبد، وأن تعذب بعضها البعض حتى الأزل.
بونويل نفسه أشار إلى هذا التماثل، ملاحظاً أن شخصيات سارتر تفهم سبب مأزقها، بينما في فيلمه «ليس هناك أي ظروف مادية تمنع الأشخاص من المغادرة».
ويشاطر بونويل سارتر فكرته الشهيرة أن «الآخرين هم الجحيم».. إذ يشعر بالرعب كلما وجد نفسه وسط حشد ما، وفيلمه «الملاك المدمر» يحمل ذلك المنطق إلى الحد الأقصى حيث الظروف، التي تكون فيها الشخصيات عالقة، تصبح رهيبة أكثر فأكثر، وتنذر بكارثة.. الجحيم بالنسبة لبونويل، ليس فقط الآخرين، بل أيضاً -وبدرجة أكبر- البنية الاجتماعية التي تشوّه العلاقات الإنسانية وتدمرها.
بعد أمسية يقضونها في مشاهدة مسرحية دينية، مجموعة من المكسيكيين البورجوازيين يتلقون دعوة على العشاء في منزل أحد الأرستقراطيين. لكن خدم المنزل، الذين يشعرون بدافع لا يقاوَم للفرار، يهربون حال وصول الضيوف وقبل أن تبدأ الحفلة، ومن دون أن يخبروا أحداً، رغم أن ذلك قد يفضي إلى فصلهم من العمل، تاركين رئيس الخدم الخنوع يعاني مع الضيوف.
هناك بعد العشاء وتعاطي الشراب المسكر والعزف على البيانو، يحدث ما لا يمكن سبر غوره، والمتعذر فهمه، بواسطة قوة خارقة أو مجهولة، أو لسبب ما يتعذر تفسيره أو تعليله، يجد الضيوف أنفسهم محتجزين داخل منزل المضيف، عاجزين عن مغادرة المكان، أو الاتصال مع العالم الخارجي، محاصرين في كابوس وجودي هزلي، ومع أن الأبواب تكون مفتوحة، ولا شيء يمنعهم من الخروج، إلا أن أحداً منهم لا يستطيع مغادرة المكان، ثمة خط غير مرئي لا يستطيعون عبوره.
الجنود يتلقون أوامر بدخول المنزل، لكنهم لا يستطيعون دخوله، طفل يركض نحو البيت غير أنه يرجع عدواً.. لا أحد في الخارج يستطيع إنقاذ الضيوف.
في البداية مظاهر الغرابة تكون محدودة، والوضع يكون حافلاً بالدعابة العبثية، حيث كل شخص في الداخل، الواحد تلو الآخر، يحاول أن يعبر العتبة لكنه يخفق، وهم لا يجدون الوضع غريباً أو مهدداً، بل ثمة قبول أو استسلام للحالة، إذ يعودون للاسترخاء على الأرائك والبسط.
لكن مع نفاد الطعام والشراب، ينقلب الحال ويتحول المزاج إلى يأس، ألم، وغضب، يتفشى المرض، الأجسام التي كانت تحت العناية القصوى تصبح كريهة وبغيضة، الأسرار لا تعود مصانة بل قابلة للإفشاء، المظاهر الأكثر خسة ودناءة من الطبيعة البشرية تبرز على السطح، عاكسة التفسخ البدني للجماعة.
إن إشباع الحاجيات الأساسية -من طعام وماء ودواء وبيئة صحية- والتي كانت دوماً تؤخذ كمسلمات أو تعتبر من الأمور المفروغ منها، يصبح -هذا الإشباع- الحاجة الأسمى بالنسبة لهم.
الوضع المتردي يجرد البورجوازية من المظهر الخادع، من القشرة الخارجية للأعراف والعادات والتقاليد، من دون حصونهم ودفاعاتهم الاجتماعية والسيكولوجية، وعبر إحساسهم بالوقوع في الشرك والعزل، تنبثق أسوأ بواعثهم وأكثرها إفساداً.
حالة اليأس والعجز والشلل تجعلهم يتعاملون في ما بينهم بوسائل كانت في السابق مدخرة لضحاياهم، في انهيار وتحلل القواعد والقوانين الاجتماعية، هم يحررون طبيعتهم الحقيقية، الوحشية، اللاأخلاقية، أمزجة حادة، حالات غضب مفاجئة، صراع وحشي على الماء، عراك عنيف، كراهية غير مبررة، تآمر، سرقة، سلوك شائن، إساءة معاملة المريض والضعيف، أنانية مفرطة، ذبح للحيوانات وأكلها، حرق الأثاث، عاشقان ينتحران، والغوغائية تسود.
إنهم يعودون إلى حالة الإنسان الأولى قبل انتقاله من البدائية إلى التحضر، هم يقضون أياماً أو ربما أسابيع، محاولين تحرير أنفسهم من خلال تشكيلة من الممارسات الدينية والشعائر الخرافية، والتي تبلغ ذروتها في هستيريا جماعية.
بونويل يجعل من هؤلاء البورجوازيين مجموعة منبوذة ليس بانتزاعهم من مجتمعهم المتفسخ بل بحبسهم داخل هذا المجتمع، حيث يتحولون إلى قطيع من الحيوانات الجائعة، ذات الغرائز الوحشية، وتحمل ميولاً ونوازع لا يمكن الإفصاح عنها.
إن نزعات بونويل السوريالية تنبثق، على نحو أقوى، من خلال الأحلام المحمومة وحالات الهذيان التي تتخذ أشكالاً مرئية على الشاشة.
عندما يتمكنون أخيراً من مغادرة المكان، يجدون أنفسهم محتجزين داخل الكنيسة، التي يذهبون إليها لتقديم الشكر، بينما في الخارج قطيع من الخراف يتجه نحو الكنيسة.
بونويل لم يرغب في اختزال معنى الفيلم إلى تأويل واحد وبسيط، وهو يرفض أي تفسير يركز بؤرته على الناحية السياسية وحدها، وهو يقول مخاطباً الجمهور «إذا بدا لكم هذا الفيلم غامضاً، ملغزاً، أو متناقضاً مع نفسه، فذلك لأن الحياة هي كذلك، إنه يتسم بالتكرار مثل الحياة، ومثل الحياة هو أيضاً عرضة لتأويلات عديدة، ربما أفضل تفسير للفيلم هو أنه -منطقياً- ليس ثمة تفسير».
حاز الفيلم جائزة بوديل كأفضل فيلم غير أوروبي سنة 1963.