كتب ـ أمين صالح:
غادر المخرج لويس بونويل المكسيك عائداً إلى موطنه إسبانيا عام 1960 بعد عقود من النفي الاختياري، وهناك حقق فيلمه «فريديانا» الذي حاز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان وعدداً من الجوائز الأخرى، وأكسبه شهرة عالمية، وكان بونويل آنذاك في الستين من عمره.
ويقول بونويل عن الفيلم «فيلمي هذا يقترب كثيراً من طابعي الخاص في صنع الأفلام منذ أن حققت (العصر الذهبي) قبل ثلاثين سنة، من بين كل أعمالي أشعر أن هذين الفيلمين حققتهما بإحساس عظيم بالحرية.. أفلامي الأخرى متفاوتة، بعضها كانت عادية، حققتها كي أعيش.. لكن من دون تقديم تنازلات».
عند عرض فيلمه «فريديانا» في إسبانيا، شن اليمين السياسي والمحافظون والكنيسة الكاثوليكية هجوماً عنيفاً ضده، باعتباره تجديفياً وفاحشاً، أدى إلى منعه من العرض.. هذا الموقف العنيف جعل بونويل يعود ثانيةً إلى المكسيك.
ويعلق بونويل «لم يكن هدفي أن أقدم عملاً تجديفياً، لكن من المؤكد أن البابا يعرف أكثر مني في مثل هذه الأمور.. أعلم كم هو فيلمي تدميري، غير أني توقعت أن يكون مقبولاً كقصة قوية.. بعد حذف ثلاث أو أربع لقطات». الفيلم عن راهبة مبتدئة تدعى فريديانا تزور عمها الثري، الأرمل، والذي لا يزال يفتقد زوجته التي ماتت ليلة زفافهما إثر إصابتها بنوبة قلبية. فريديانا تلبي ـ على مضض ـ رغبته الاستحواذية المنحرفة في ارتداء ثوب الزفاف الخاص بزوجته، نظراً للتشابه بينهما.. بعد ذلك هو يخدرها ويحملها إلى غرفة نومه ويهم باغتصابها.
في اليوم التالي يعترف لها ـ كاذباً ـ أنه فض عذريتها، فقط كي تبقى معه ولا تعود إلى الدير. في النهاية يدفعه إحساسه بالذنب وشعوره بالإذلال إلى الانتحار شنقاً.. هي تتقاسم ميراثه مع ابنه غير الشرعي.
في حديثه عن الفيلم يقول بونويل «فريديانا اسم قديسة غير معروفة كثيراً، عاشت في زمن القديس فرانسس.. كنت مفتوناً باسمها منذ فترة طويلة حين كنت في المكسيك، بدأت في التخطيط للفيلم، الفكرة خطرت لي ـ كما في كل أفلامي ـ من صورة ما، ومنها تدفق العمل برمته وبشكل طبيعي مثل النافورة، الصورة هي كهل يخدر فتاة.. هي تحت رحمة رجل لا يستطيع أبداً ـ في ظروف طبيعية ـ أن يحتويها بين ذراعيه.. فكرت، لابد أن هذه الفتاة طاهرة وعفيفة، لذلك جعلتها راهبة مبتدئة».
من أكثر مشاهد الفيلم إثارة للصدمة، ذاك الذي يصور فريديانا وهي تستضيف مجموعة من الشحاذين واللصوص والعاهرات، معتقدة أنها قادرة على تطهيرهم من خلال الصلاة.. هنا يعاد تمثيل «العشاء الأخير» للمسيح ومريديه. يقول بونويل «فكرة الشحاذين جاءت فيما بعد، خطر لي أنه من الطبيعي أن ترحب الراهبة بهم وتدعوهم إلى منزلها، أحببت رؤية هؤلاء الشحاذين يتناولون العشاء في حجرة طعام، متحلقين حول مائدة ضخمة مغطاة بسماط مطرز وشمعدانات، فجأة أدركت أنهم جالسون كما في لوحة، وعلى نحو مقصود، لجأت إلى اقتباس المشهد من لوحة ليوناردو دافنشي (العشاء الأخير).. بعدئذ جعلت موسيقى هاندل (المسيح) تصاحب طقوس العربدة ورقص الشحاذين.. أعتقد أن ذلك خلق تأثيراً مدهشاً وأخاذاً.. وبالمثل، فكرت في استخدام موسيقى موزارت (قداس) كخلفية لمشهد الحب بين الكهل والفتاة». في رده على الاحتجاجات والانتقادات، يقول بونويل «احتج الكثيرون بسبب تصويري إكليلاً من الشوك وهو يشتعل، مع أن الحرق ـ حسب علمي ـ ليس مدنساً، كذلك احتجوا لإظهاري مدية في شكل صليب، لكن مثل هذه السكاكين يمكن إيجادها في كل مناطق إسبانيا، أختي ـ المتدينة جداً ـ التقت ذات مرة براهبة تستعمل هذا النوع من السكاكين في تقشير التفاح، إذاً أنا لم أخترعها، التصوير وحده الذي يظهر ويوضح المفارقة والخاصية السوريالية لمادة منتجة على نطاق واسع بكل براءة. أيضاً وجهت إلي انتقادات بسبب قسوتي.. أين هي القسوة في الفيلم؟ الراهبة تبرهن على إنسانيتها.. الكهل، المخلوق المعقد، قادر على الإحساس بالشفقة نحو البشر ونحو نحلة وديعة لا يتردد في إنقاذها.. لا أعرف لماذا يتذمر الناس.. بطلة فيلمي طاهرة في النهاية أكثر مما كانت عليه في البداية». ويقول في موضع آخر ـ الاقتباس من مجلة نيويورك تايمز 11 سبتمبر 1973 ـ «فريديانا فيلم يحمل طابع الدعابة السوداء، هي تلقائية وغير مخطط لها، ومن خلالها أعبر عن استحواذات جنسية ودينية متصلة بطفولتي.. التربية الدينية والسوريالية تركا بصماتهما علي طوال حياتي. من جهة أخرى، الفيلم يحتوي على أغلب الثيمات القريبة إلى نفسي، وهي أكثر الاهتمامات بقاءً في ذهني وتعلقاً بي».