كتب - علي الشرقاوي:
في بحثي الطويل عن تاريخ القهوة الشعبية، صادفتني عوائق وعراقيل تدفع الإنسان لترك مشروعه والتوجه لآخر، تخفيفاً للضغط وتجنباً لمغالطات يمكن الوقوع فيها دون قصد.
أول العوائق عدم وجود تاريخ يمكن الاعتماد عليه في معرفة التشكيلات الأولى للمقهى الشعبي البحريني، وثانيها وفاة أغلب أصحاب القهاوي القديمة وعدم إمكانية الركون لمعرفة أبنائهم بهذا المجال، فكل واحد منهم يتصور وربما يجزم أن قهوته هي أول القهاوي في عموم البحرين.
وحدث في بعض الأعوام أنه سمح بشرب القهوة وتقديمها لزوار البيت العتيق جنباً إلى جنب مع ماء زمزم، وفي أعوام تالية وسابقة حرمت القهوة وأقيم الحد الشرعي على شاربها وبائعها، وعزر أولئك وطوف بهم في شوارع مكة، وكبس العسس على المقاهي وبيوت القهوة وخربت ودمرت وضبط المرتادون وأخرجوا وشد وثاقهم بالحبال والحديد، وجلدوا في الميادين العامة وسجنوا المدد المقررة.
ومن مصر والحجاز انتقلت القهوة إلى قسطنطينة ثم البندقية في القرن السابع عشر الميلادي ومنها إلى سائر أوروبا، وافتتح أول مقهى في إنجلترا سنة 1652، ولقيت القهوة معارضة في إنجلترا وألمانيا ولكنها معارضة يسيرة.
من هذا الباب ندخل إلى مقاهي البحرين القديمة، وكيف تحولت القهوة من اسم مشروب إلى مكان؟
المقهى الشعبي
القهوة نوع من المشروبات الساخنة الحديثة نسبياً، وصلت البحرين ربما بعد الحجاز ومكة وسواها من المدن والعواصم العربية، باعتبار هذه المناطق أكثر قرباً من اليمن موطن القهوة الثاني بعد الحبشة، وإذا كانت محرمة فمن الطبيعي أن تشرب في أماكن سرية، بعيداً عن أعين العسس والرقباء، وخاصة رجال الدين.
وفي تصوري شاع شرب القهوة في البحرين بداية من دور الطرب الشعبي من قبل المؤدين والمشاركين على حد سواء، فيما بعضها يعاقر الخمرة، ويمكن أن يفسر هذا منع العوائل أبناءها من الذهاب إلى هذه الدور.
هدم دور الطرب
بإمكان الإنسان تحويل مكان سكناه إلى مكان آخر مختلف متى شاء، خاصة إذا شعر أن المكان الحالي صار خطراً عليه وعلى عائلته وأصحابه، وهذا ما حدث في البحرين أيام الغوص، حيث أمر مستشار حكومة البحرين تشارلز بلجريف بهدم دور الطرب الشعبي بعد أن تحولت إبان تلك الفترة إلى مكان لتجمع الغواصين وتخطيطهم لخلق حالة من التوتر السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد.
ويمكن القول إن هدم دور الطرب، وهي بمثابة المجالس الاجتماعية في ذاك الزمان، ساهم بفعالية في انتشار المقاهي وزيادة أعدادها في المنامة والمحرق خاصة.
القهوة.. المكان
حسب التجربة التي عايشناها ونحن ننتقل بين القهاوي الشعبية في سوق المنامة أو المحرق، تعتمد هذه القهاوي اعتماداً رئيساً على بيع الشاي الأسود، أو كما تسمى باللغة الفارسية «السنكين» أو الشاي بالحليب «ملة».
ولم ألحظ أي مقهى من مقاهي البحرين الشعبية تقدم القهوة، ربما يمر المقهوي وهو يدور بـ»الدلة» في السوق، ويطلب منه المارة والمتسوقون فنجان قهوة مقابل آنة أو آنتين، ما يعادل خمسة فلوس أو عشرة، وربما لا يحصل على شيء.
والسؤال لماذا سمي المكان بـ»القهوة» وليس له علاقة مباشرة بالقهوة كمشروب؟!
القهوة الشعبية في البحرين أو ربما في كل الدول العربية الأخرى سميت بـ»المقاهي»، وكان من المفترض أن تسمى بيت الشاي، أو كما يدعوها الإيرانيون «شاي خانة» وهذا أقرب للواقع من تسمية القهوة.
لم أجد تفسيراً غير تخريجة أراها واضحة أمامي، وهي أن أصحاب القهوة أو روادها الأوائل كانوا يشربون القهوة في مرحلة التحريم، وربما أطلقوا على المكان الذي يتسامرون فيه «مجلس القهوة»، ولذلك حينما بدأت مرحلة خروجهم من السرية إلى المجاهرة أخذوا معهم القهوة، مبعدين عنها كلمة المجلس.
«بوضاحي» الأقدم
في تصوري أن قهوة بوضاحي في سوق المنامة هي أقدم قهوة شعبية في عموم البحرين، ولا علاقة لها بانتشار القهاوي الشعبية بعد هدم دور الطرب الشعبي وأكثرها في المحرق، لأنها افتتحت قبل هذه الفترة معتمداً على قربها من فرضة المنامة التي تستقبل يومياً عشرات السفن القادمة من مناطق بعيدة.
واستدعت حاجة البحارة للراحة والسكينة أن يكون هناك ثمة مكان يؤويهم، وكانت قهوة بوضاحي قبل أن تكون مكاناً لشرب الشاي والقهوة والماء والكدو والروب مع الخبز والنخي والباجلة، خاناً للنوم، يقصده البحارة أثناء تحميل وإفراغ حمولة سفنهم من المسافرين والمحاصيل الزراعية والأخشاب والمنكرو والحصر.
وبعد أن شاع تقديم القهوة في المقاهي كمشروب أساس سميت بهذا الاسم، ربما هذا الطرح لا يملك أية حقيقة تاريخية، ولكنه تصور شخصي، قد يجد من يدعمه أو يدحضه.
إذا قهوة بوضاحي هي الأقدم لأنها قريبة من الفرضة، أي قريبة من حركة السفن التي لا تتوقف عن الحركة إلا ليلاً، وقريبة أيضاً من الأسواق، خاصة سوق التمر والذي بقيت آثاره وشاهدناها حتى منتصف الستينات.
«بوخلف» الأشهر
احتفل بمرور 75 عاماً على إنشاء قهوة بوخلف الشهيرة بالمحرق في لقاء أجراه الصحافي إبراهيم النهام مع صاحبها عبدالله بوخلف 26 فبراير 2012.
يقول بوخلف الابن إن «مقهى بوخلف هو الأول بسوق المحرق القديم، أسسه والدي المرحوم خليفة عبدالله سالم عام 1938، وكان يومها محطة للقاء أهالي المحرق من صيادين وغواصين وبائعي معدات الصيد، كان بجماليته وروحانيته كنزاً حقيقياً احتضن آلاف حكايات الأولين ومغامراتهم الشيقة في عرض البحر».
بهذه العبارة الرائعة بادرنا عبدالله بوخلف بحديث الذكريات عن مقهى والده الشعبي، الذي لايزال جاثماً حيث هو، وإن تغيرت البيئة المحيطة به، الناس والنفوس ربما، وعبدالله بوخلف من أبناء حالة بوماهر ومن مواليد 1948، نشأ بأوساط عائلة عرف رجالاتها بدماثة الخلق والمرجلة والفزعة حين تشتد الأزمات.
يتابع بوخلف حديثه «جمالية الماضي ببساطة كل تفاصيل الحياة، كانت بقهوة الوالد تباع الباجلة والنخي والروب البلدي وغيرها من الأكلات البسيطة إلا أن لذة تناولها مع الأصدقاء وصوت النارجيلة يتردد بالأنحاء هو ما يميز المكان.. النفوس كانت مختلفة، وحتى مع انتقال القهوة إلى فريج الغتم، ازدانت بجمال أكثر خصوصاً مع حضور الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة بين الحين والآخر، وهو يحمل كتاباً يقرأه على مسامع الحضور».
ويضيف «تخيل أن إيجار المحل حينها كان لا يزيد عن 60 روبية شهرياً، في حين لم تتجاوز قيمة استكانة الشاي البيزة الواحدة، كما كانت إنارة المحل تعتمد على الكيروسين، ويدير القهوة عامل واحد فقط كان يحمل على كاهله كل المهام، والقهوة كانت تغلق أبوابها مع حلول الظلام لنقص خدمات الإنارة حينها، واستمر الوالد يدير هذه القهوة الشعبية الصغيرة لأكثر من 30 عاماً، حتى توفاه الباري عز وجل عام 1977».
بعد وفاة الوالد خليفة عبدالله والذي اشترى قبل وفاته بسنوات القهوة الكائنة خلف مركز شرطة المحرق، استلم ابنه عبدالله مهام إدارة المقهى الشعبي الأول بالمحرق والأشهر في البحرين كلها، وكان عبدالله المعروف بخفة ظله، وقدرته الشعرية الكبيرة مختلفاً عن والده من حيث الطموح، فعمد على توسعة المقهى ليحتضن ما يقارب 200 شخص تقريباً، وإضافة عدداً جديداً من العمال والطاولات الشعبية والكراسي، وتعليق الصور العتيقة والنادرة وصور القيادة على كل جدران المقهى.
قهوة معرفي بفريج الفاضل
حينما أتكلم عن فريج الفاضل فأنا أعني عالمي الخاص، وهو جزء من شارع أبو العلاء الحضرمي ويمتد من قهوة معرفي المطلة على شارعي الشيخ عيسى الكبير وأبو العلاء الحضرمي وصولاً إلى بيت المعلمة عائشة، أو مدرسة عائشة أم المؤمنين، القريبة من بيت سالم العريض.
في هذا الشارع بيوت كبيرة مثل بيت حسن العجاجي وفهد العجاجي وعبدالرحمن الباكر وسلمان كمال وحمزة والحاجة وبهلول ونعمة، والخط الأساس الذي اعتبرته العالم، يتمثل بالطريق المحاذي لبيتنا والممتد من بيت ناصر المنشاري ويقابله بيت عبدالله فخري، إلى بيت عبدالله الحاجة، ويقابله بيت جاسم بوزيري، وبعد بيت تقي يقع بيت محمود وأبنائه أحمد جاسم محمود المدير المعروف لأكثر من مدرسة في تلك الفترة، ومن إخوانه يوسف جاسم محمود، الأعمى الذي يرى أكثر من المبصرين، وكانت له علاقة بأهلي، وغاص معهم في سواحل سترة، وتزوج بعد ذلك آمنة ابنة خالي محمد، وبعده يأتي بيت محمود وجاسم المردي ثم بيت سيار وبيت عبدالله الحاجة الذي يقابله أيضاً أحد البيوت الكبيرة وهو بيت الخان.
في نهاية الخمسينات كنا صغاراً، ولم تكن تستهوينا جلسات القهاوي، بقدر ما كنا نجلس على صناديق الشاي أمام دكان ابن الفريج يوسف جاسم محمود «يوسفوه العمي» وكان شاي البيت يكفينا، وأمام الدكان نشرب البيبسي والستيم والميرندا والكندادراي بأنواعه المختلفة.
الراديو لجذب الزبائن
مع وصول أجهزة «الجرام فون» وأسطوانات «الفار» إلى البحرين، بدأ انتشارها في القهاوي، رغبة من صاحب القهوة في زيادة عدد الزبائن، وخاصة المطربين الشعبيين مثل محمد بن فارس وضاحي بن وليد وبعدهم محمد زويد، إضافةً إلى أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش من مصر، والمطربين العراقيين مثل الحضيري بو عزيز وناظم الغزالي.
في الأربعينات وإبان الحرب العالمية الثانية، كان الراديو وصل البحرين، وبدأ أصحاب القهاوي بوضعه في مقاهيهم، من أجل زيادة عدد الزبائن، عن طريق إسماعهم آخر أخبار الحرب، وكان يونس بحري يلعلع بصوته الجهوري، ما ساهم في انقسام مجتمع القهاوي بين مؤيد للحلفاء وآخرون للمحور، وبصورة أدق كان البعض مع بريطانيا والبعض الآخر مع ألمانيا.
في الخمسينات كانت الثورة المصرية تركت أثرها على المواطن العربي، وبدأ رواد القهاوي بالعمل للحصول على آخر أخبارها والاستماع إلى خطب جمال عبدالناصر من خلال التردد على القهوة.
خروف يشرب الحليب
في الستينات كنا نرتاد القهوة، اسمها غريب بعض الشيء مقهى «نلي»، وهي تقع شرق فريج بوصرة خلف ماكينة يتيم للثلج، وحالياً تتموضع بالضبط في موقع فندق عذاري، وكان صاحب المقهى درب خروفاً كبيراً على شرب الحليب، وكان الخروف يجذب الزبائن من كل مكان.
كانت هناك الكثير من القهاوي في البحرين، منها قهوة الفارة والكنكوني وعبدالغفار وعبدالرحيم، لكل واحدة منها قصة مختلفة في طبيعة تكوينها ولها رواد وروايات نسجت حولها، وعلى الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، العمل على تسجيل لقاءات مع أصحاب هذه القهاوي وروادها، ليتعرف الجيل الحالي والأجيال المقبلة على شيء من تراثهم الذي بدأ بالاختفاء بغياب الكثير من أصحاب هذا القهاوي وانتقالهم إلى الدنيا الآخرة.
قصيدة في قهوة «بوضاحي»
لكل شرارةٍ نسغ يفجر شوقها في زعفران السر
مثل الماء قبل الماء يزرع ماء
لكل وريقة ضوء
يترجم وقتها بين الصدى فتموسق الأجواء
ولي نخل المنامة شهوة الأمواج
قنديل الخرافة بين عاصمتين
ذاكرة الحوامض في مدى جغرافيا النارنج
لي في بنسيان الروح بوضاحي
أتعرف أي سر الأرض يسكن قلب بوضاحي؟
بوضاحي سماء في ظلام الهم
بوضاحي أبي وأخي وابن العم
بوضاحي سفينة دم
ترى في زرقة الأحمر
شظايا جنة منزوعة القشرة
توصل ما تقطع بين ممباسا
وبين مشاعر البصرة
وبوضاحي
على الأيام نافذتين من بلح
على جهتين
تشتعلان في صمتٍ يطل كغابة في القلب
بوضاحي سرير طفولة المعنى
وتاريخ السفينة في تحولها
يسافر من حنان الشوك
في ليل الموانئ يركب الأمواج
بوضاحي
دخانك في دمي مطر
إذا غاب الندى يأتيك أولادي
على شكل السؤال ولعبة الصعكير
محاصرة أغانيك الصبية بين مشنقتين
مشنقة لها شكل المصارف في تصرفها
ومشنقة لها طبع المتاجر في صباح السوق
محاصرة خلاياك الصبية بين عاصفتين
عاصفة من الذكرى وعاصفة الكلام يدور
بوضاحي يمينك موت
بوضاحي يسارك موت
أي رحابة في جنة الموتين
تشعل في الخلايا لهجة الأجداد؟
بوضاحي
منامتك التي كانت
تخاصر في السحابة موجة الأسفار
يرعبها الحنين إلى صباح الماء
يرعبها الدخول إلى خروج الريح
يرعبها التحول من يد تسقي الغيوم
إلى يد ممدودة كالشمس نحو الليل
كنت مخدة المغدور
وكنت شرارة النعسان
كنت حمامة الريحان
كنت علاقة الحدي بالزلاق
كنت قصيدة الجذر المسافر من كهوف الطين للأوراق
إن جعنا من الكتفين تطعمنا
وإن ظمأت هياكلنا توهجنا بماء الشوق
هل في كبرياء النخل غير صياغة أخرى لمائدة الحواس السبع؟
هل في كهرمان الشوق إلا رجفة المغنى يخضر جلجلان الروح؟
بوضاحي زغاريد العواصف
تنتشي من جمرة في صوت بن فارس
تطير نوارس الأشعار
من سيراف
أو دارين
أو مسقط
إلى نافورة شهلاء في أقصى سما فارس
بوضاحي
له فتوى البحار بصخرة الساحل
على الكرسي رائحة السواحل تسكن اللهجات
من نارجيلة كالبحر صوتك وهج الفتوى
وي وعد الغنائم تغمس الكسرة
حليب شرارة الدانات قلبك
آه بوضاحي
لماذا كلما هدموا جداراً جفت الكلمة
وإن خلعوا الفسيلة من مراياها
بكت دهراً خلايا الأرض
وإن قلعوا مشاعرنا
ضحكنا
آه بوضاحي
على زنديك ورقنا السواحل في مدى الأبصار
ومن شفتيك علمنا الصدى جدوى صعود النار
يسارك ينحني للربح
يمينك ينثني للربح
شربنا من كلامك زبدة الألوان
بوضاحي
لأنك قهوة الدنيا وشاي الروح
تبقى في دمي طفلاً
إذا غادرتني
سأظل أمشي في دجى حلمي
بلا عنوان.