كتب ـ أمين صالح:
انقسم النقاد إزاء أعمال المخرج تيرنس ماليك إلى فريقين، بين معجب ومناصر يرى في أفلامه نتاجات راقية، وتحفاً فنية، وإبداعاً أصيلاً، وشعراً بصرياً صرفاً، وآخرون يرون في ماليك شخصاً مغروراً، فارغاً، كثير الادعاء، أعماله مثيرة للسخط والضجر، وفقيرة المضمون.
في مهرجان كان الذي منح فيلمه «شجرة الحياة» جائزته الكبرى كأفضل فيلم، انقسم الحضور أثناء عرضه الأول بين من هتف له استحساناً ومن أطلق صيحات الاستهجان.
هنا نشير إلى طبيعة تيرنس ماليك الخجولة، المتكتمة، المتحفظة، المتواضعة، يقال إنه مجهول حتى في المدينة التي يسكنها، بسبب عدم تداول الميديا لصوره الشخصية، أخباره الخاصة لا أحد يعرف شيئاً عنها، أو يعرفون القليل منها، والتي لا تصلح كمادة إعلامية.
هو يحيط نفسه بدائرة صغيرة من الأصدقاء المقربين، ولا يحب حضور المناسبات، منتج فيلمه «شجرة الحياة» استلم الجائزة نيابة عنه، ولا يميل إلى إجراء مقابلات صحافية أو تلفزيونية، بل أن صوره الفوتوغرافية نادرة جداً، وسبق لماليك أن فاز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان كان عام 1979 عن فيلمه «أيام الجنة».
وتشير بعض المصادر إلى أن ماليك كان موجوداً في مدينة كان إثناء انعقاد المهرجان، وأنه تناول العشاء مع براد بيت والمنتجين عدة مرات، لكنه رفض حضور عرض فيلمه أو المشاركة في المؤتمر الصحافي الذي عقب عرضه، ويقال إنه دخل الصالة أثناء عرض الفيلم خفية ودون أن يراه أحد.
الذين يعرفون تيرنس ماليك، ممن عملوا وتعاونوا معه، يقدمون صورة أو «بورتريه» لشخص متناقض، خجول إلى أبعد حد في الحياة العامة، لكنه مفعم بالمرح والجذل أثناء التصوير في المواقع، مهذب ووديع، لكن يمكن أن ينقلب إلى شخص عنيف وحازم، يؤمن بما هو خارق وملغز، وفي الوقت نفسه يؤمن بقوة بالعلم.
صارم ودقيق جداً إلى حد الهوس والوسوسة، ويقال إنه أنهى تصوير فيلمه «شجرة الحياة» قبل 3 سنوات من عرضه، لكنه ظل يعمل في مونتاجه طوال هذه الفترة، مستعيناً بخمسة من فناني المونتاج عملوا معه على انفراد وبالتناوب، بل حتى قبل إرسال الفيلم إلى مهرجان كان بفترة قصيرة، طلب مزيداً من الوقت للعمل فيه، غير أن الممولين والمنتجين وبعض الأصدقاء ألحوا عليه لكي يرسل الفيلم في موعده، مع ذلك لديه إحساس طفولي بالدهشة والفضول إلى حد أنه في غمرة تصوير مشهد ما يمكن أن يحدق بإمعان في فراشة أو طائر هاجع في الجوار، فيغفل عن المشهد.
في الموقع يشاهدونه يكتب ويعيد كتابة السيناريو كل يوم تقريباً، بلا كلل أو ضجر، وبينما أفلامه تتعلق بأفكار مهمة ومعقدة مثل معنى الحياة وطبيعة الهوية، إلا أن أحاديثه غالباً ما تكون مشحونة بكلام عن الكلاب وموضوعات عادية.
يقول براد بيت في إحدى مقابلاته «النظر إلى ماليك بوصفه مفكراً متغطرساً، يتعارض مع حقيقة ما يكونه في حياته اليومية».
وتقول الممثلة جيسيكا شاستين «حين ألتقيت به للمرة الأولى، ظننت أننا سنتحدث عن الفيلم، لكنه كان مهتماً بشخصي ومن أين أتيت، أكثر من التحدث بإسهاب عن أفكاره». ويتحدث عنه مصمم مناظر أفلامه جاك فيسك «بوسعه أن يتحدث لأي شخص عن أي شيء، من أصل الإسفلت إلى سلالات الطيور إلى الحياة في شمال أفريقيا، هو يعرف الكثير لكنه دائماً يجعلك تشعر بأنك تعرف أكثر منه». وتقول عنه المنتجة سارة جرين إنه كثير الضحك في الموقع، وأن كل شخص يشعر بالارتياح حين يتحدث إليه، وهو لا يحاول أن يبدو غامضاً، محفوفاً بالألغاز، بل يرغب أن يعيش حياة خاصة بعيداً عن الأجواء العامة الصاخبة. وشرحت مصممة الملابس جاكلين ويست سبب حاجة ماليك للمزيد من الوقت لإكمال فيلمه أنه يوجه عناية فائقة إلى أصغر وأدق التفاصيل، وتذكر أنها عندما عملت معه في فيلم «العالم الجديد» تناقشا لمدة ساعة حول لباس البطلة في أحد المشاهد، وما إذا كان عليها أن ترتدي ثوباً باللون الأزرق أم بلون آخر، وتضيف أن من يعمل مع ماليك ينبغي أن يكون رائياً مستبصراً.
ولد تيرنس ماليك في إيلينويس 1943، عاش طفولته ونشأ موزعاً بين تكساس وأوكلاهوما، قبل أن يتوجه إلى هارفارد حيث تخصص في مادة الفلسفة، وبدأ مسيرته الفنية ككاتب سيناريو قبل أن يتحول إلى الإخراج.
فيلمه الأول Badlands تدور أحداثه عن شاب أمي تقريباً، يعمل في جمع القمامة، وفتاة تعيش مع والدها الصارم المتزمت، الذي يرفض العلاقة الناشئة بينهما، فيضطر الشاب إلى قتله، بالتواطؤ مع ابنته، ثم يهربان لتلاحقهما الشرطة من مكان إلى آخر، وتنتهي الملاحقة باعتقالهما.
الأحداث تدور في خمسينات القرن الماضي، والفيلم قائم على سردين، الأول بصوت الفتاة وهي تقرأ من يومياتها معبرة عن كيفية رؤيتها للأحداث، والسرد المناقض من وجهة نظر موضوعية للمخرج، ومن خلال هذه القصة التي تبدو كحكاية شعبية، يتناول ماليك إفساد البراءة، والنزوع للعنف.