كتب ـ أمين صالح:في عام 1978 عرض تيرنس ماليك فيلمه الثاني «أيام الجنة»، فيما حقق فيلمه الثالث «الحد الأحمر الرفيع» عام 1998، بعد غياب دام عشرين سنة عن الشاشة، وحتى المقربين منه رفضوا إعطاء تفسير لهذا الغياب الطويل.خلال هذه الفترة أقام ماليك في باريس، وكتب عدة سيناريوهات لم يتشجع لها أحد من المنتجين، قبل أن يرشح الفيلم الأخير لجائزتي أوسكار أفضل سيناريو وأفضل إخراج.بعد سبع سنوات قدم فيلمه الرابع «العالم الجديد» 2005، وبعد سبع سنوات أخرى عرض فيلمه الخامس «شجرة الحياة» 2011.في مسيرة المخرج تيرنس ماليك السينمائية، نلاحظ أن ثمة مسافة زمنية طويلة تفصل بين فيلم وآخر، فيما يتصل بالتنفيذ، ومن بين الأسباب الرئيسية لهذه الانقطاعات يمكن الإشارة إلى اعتناء تيرنس ماليك بأدق التفاصيل في مختلف عناصر ومظاهر الفيلم، إصراره على تفادي النواقص الفنية، إيمانه بالفيلم كعمل فني جاد وذي قيمة أكثر من اهتمامه بالنواحي الأخرى.تيرنس ماليك ليس من صنف المخرجين الذين يتبنون مناهج مباشرة تقليدية في رواية القصص، وليس من النوع الحريص على عرض موضوعاته بلغة تبسيطية بحيث يستوعبها كل متفرج، فأعماله تقتضي من المتفرج انتباهاً وعناية وتركيزاً.فيلمه «شجرة الحياة» استكشاف فلسفي، مثير للمشاعر، للحب الأسري، الفقد، الحزن، الندم أو الإحساس بالذنب، ها هنا سبر للمشاعر الأعمق، للأسئلة الأصعب، تلك التي لم تعد تستوقف الكثيرين، بل يحاذونها دونما التفاتة، تلك التي صارت تؤخذ كمسلمات وثوابت ويقين في حين أنها ليست كذلك.. مركزاً بؤرته على عائلة واحدة الأب، الأم، ثلاثة أبناء.إنه تأمل في الحياة، العائلة، البراءة، الأسى، وأصل الكون، استجواب أو استنطاق لمعنى الحياة على مدى 138 دقيقة «هي مدة الفيلم المعروض في الصالات التجارية، لأن البعض ـ من بينهم مصور الفيلم إيمانويل لوبيزكي- يلمح إلى أن نسخة العمل الأصلية بلغت 6 ساعات».الفيلم يبدأ وينتهي بهالة من الضوء السماوي البرتقالي تحوم في مركز الشاشة، «قصة» الفيلم -إن كان يصح الحديث عن قصة هنا- ليست مبنية على أساس صلب ومتين، ولا على حدث تاريخي أو مصدر أدبي، تيرنس ماليك ينحاز هنا إلى التجريدي والذاتي، إلى طرح الأسئلة الكونية عن الوجود والحياة والموت، ينحاز إلى نقاوة اللحظات ضمن العلاقات الإنسانية، إلى النزوع التأملي في الطبيعة والأشياء المحيطة، إلى إظهار التناغم أو التوازن بين الإنسان والطبيعة «هذه العلاقة القائمة غالباً على النزاع والعنف».تنقل ماليك بين المادي «الفيزيائي» والماورائي «الميتافيزيقي»، مفضلاً تقديم حكاية ملغزة عن الحياة، عن دروس الحياة، عن نشوء الحياة وحركتها وامتدادها في هذا الكوكب منذ فجر التاريخ أو الزمن، إلى واقعنا وزمننا المعاصر، بطريقة ربما تبدو مربكة ومحيرة بالنسبة لمتفرج اعتاد على الحبكات الواضحة والسرد المباشر المألوف، بثيمات تكشف بيسر وسهولة معنى كل شيء.هذا المتفرج الذي يرغب في متابعة حكاية ما، وليس تكوينات بصرية، حتى وإن كانت مدهشة وأخاذة، تستغرق وقتاً طويلاً من الزمن السينمائي، باحثاً -المتفرج- عن تجربة حياتية يومية وليس تجربة فلسفية أو وجودية أو ميتافيزيقية، إنه يريد أن ينفعل ويتفاعل على المستوى الفيسيولوجي «سواء عبر الأكشن أو الميلودراما أو الكوميديا أو الرعب»، لا أن يتأمل في هدوء معجزات الحياة التي نصادفها في حياتنا اليومية دون أن نلقي لها بالاً، أو نخفق في تمييزها واكتشافها.ولأن الفيلم لا يلتزم البناء السردي التقليدي، بل يعتمد على سلسلة من الصور الانطباعية تستحضرها الذاكرة وتداعيات الذهن «الذاكرة عادةً لا تقدم لنا قصة بل سلسلة من الصور، شرائح لا يربطها تسلسل زمني»، فإنه -الفيلم- يستدعي تركيزاً في المشاهدة، ومتابعة واعية، وسبراً للمرئي وما وراء المرئي للكشف عن المجازات والرموز، كما يحتاج الفيلم من متفرجه إلى قدرة على الاحتمال، وبسبب صوره الغامرة وألغازه أو أسراره المتضمنة، الفيلم يقتضي أكثر من مشاهدة واحدة.من أجل تكثيف الحالات النفسية، وإبراز التداعيات الذاتية، وإعطاء الصورة بعدها الجمالي والفلسفي، يوظف ماليك الوسائل التي استخدمها سابقاً لكن بطريقة مختلفة نوعاً ما، هنا نجد تشكيلة من خيوط أو جدائل السرد، تعالج الوضع نفسه لكن من وجهات نظر متعددة.المونولوجات الداخلية الهامسة، التي تطرح تساؤلات فلسفية ودينية، ذات النفس الشعري والحس الموسيقي، بأصواتها المتعددة والتي تتواءم مع الطبيعة المتحولة للمادة، التوظيف الرائع للصوت والمؤثرات السمعية والبصرية، الإيقاعات البطيئة، اندماج الرؤى الغرائبية مع الصور الواقعية، تداخل اللقطات، حركة كاميرا متدفقة، مرافقة للشخصيات أو مقتربة ومبتعدة من خلال الزوم، تحت إدارة المصور الرائع إيمانويل لوبيزكي (الذي حاز على جائزة نقاد نيويورك كأفضل تصوير عن الفيلم، وسبق أن عمل مع ماليك في فيلم «العالم الجديد»).ليس من المجدي تأطير الفيلم ضمن نوعية معينة، كما ليس من السهل تلخيصه.