كتب - د. فودة محمد علي:
برؤية فلسفية متعمقة تؤصل لطبيعة الحياة البحرينية يكتب الشاعر الكبير علي الشرقاوي مسرحيته «البئر»، والبئر عند الرجل العربي منبع الماء، والماء إكسير الحياة، الذي كان سبباً في نشأة البحرين وتطورها، حيث كانت عيون الماء العذبة المتفجرة في أرض البحرين هي التي تدفع العطاشى والهائمين من المسافرين عبر البحر إلى النزول إلى تلكم الجزيرة في قلب الخليج، ثم ما لبث أن استوطنها الناس.
«البئر» مسرحية ذات طابع تراجيدي عنيف يهز الإنسان هزاً عنيفًا تتجلى فيها تراجيديا عنيفة تصور كيف يكون الإنسان، عندما يتوه العقل وتنعدم الرؤية ويفقد الإنسان القدرة على معرفة العدو من الصديق، أو ينسى الأخ أخاه، مستوحياً بعض أفكارها من التراجيديا الأزلية «قابيل وهابيل» عندما يعلو صوت «الأنا»، ويمرض القلب، ويسكنه الشيطان، فيغيب الوعي، وتنطمس البصيرة، فتتحول يد الرعاية والحنو إلى يد بطش وانتقام.
على مسرح الصالة الثقافية
مسرحية الشرقاوي أخرجها مؤخراً الطالب محمود العلوي على مسرح الصالة الثقافية، تحت رعاية جامعة المملكة، ونجح العلوي -عبر رؤية درامية مشحونة ومتأججة- بأن جعل المتفرج يسبح معه في بحر عميق من المشاعر الفياضة والأحاسيس العالية، حيث عرض أهم القضايا محل الجدل في البيئة البحرينية. لقد جسد النتائج التي قد تثمر عن الحل غير الرشيد للمشكلات، فمن خلال مأساة عالية الشجن وإيقاع حزين يقتل الأخ أخاه في المشهد الافتتاحي أو البرلوج المسرحي بسبب التنازع، ليبدأ المشهد الثاني من خلال حالة الندم والتيه التي اعترت القاتل، ليبدأ المخرج في استعادة الأحداث في صورة مشاهد فلاش باك على غرار اللغة السينمائية، وذلك من خلال أخوين توأمين.
أراد المخرج أن يجعلنا لا نفرق بين أحد منهما كرمز للأخوة المتحدة المتأصلة والمتجذرة في عمق البيئة البحرينية بكل طوائفها، حيث يخرج الأخوان «شاهين وشعبان» في رحلة الصحراء الشاسعة الممتدة، حيث تعصف بهما الريح، ويدفعهما الظمأ إلى أن يأويا لجزيرة صحراوية، ليدور بينهما حوار مفعم بالشجن، ممتلئ بالضجر والحزن، وشدة الندم على الرحيل عن الوطن، وفي رحلتهما للبحث عن الماء، يحفران بئر الماء، وينبع الماء عذباً فواراً ليتبدد السخط واليأس ليحل الرضى والأمل كما جاء على لسان شخوص المسرحية» الماء يعني أن تنبت الأرض، فينمو الزرع، ويكثر الضرع، فيأتي الناس «لكن المتبرم الكاره لمجيء الناس يجيب «لكن لا أحب الأغراب» فيجيب الصوت العاقل «لكن لولا الأغراب ما كان بناء» ويصل بنا الصراع الدائر بين الأخوين لذروة الأحداث عندما يتنازع الأخوان على ملكية الواحة، والاسم الذين يطلقونه عليها، «واحة شعبان، أم واحة شاهين» فيرفع أحدهما حجراً ليهوي به على رأس أخيه، ويعود المخرج من هذا الفلاش الطويل للواقع، حيث يجد القاتل نفسه وحيداً في جزيرة نائية بغير معين، يرقد أمامه جثمان أخيه المسجى فوق رمال الصحراء ...فلا يملك إلا الصياح والبكاء في وقت لا ينفع فيه بكاء.
الممثلان التوأم أحمد ومحمد عجلان استطاعا تجسيد الأحداث والأدوار ببراعة فائقة، استحوذت على مشاعر وأحاسيس المتفرجين، من خلال تقمص كامل للشخصيات وتصوير أبعادها السيكولوجية والسيسيولوجية والفسيولوجية، من خلال لغات التصوير الساكنة والمتحركة، بداية بالحركة التي كانت أشبه بحركات ثمل للتعبير عن حالة الضياع وفقدان الوعي الذي اعترى الشخصيتين، كذلك من خلال الإيماءات والإشارات واللغة غير اللفظية، والدموع المسكوبة، فضلاً عن الكلمات التي صاغها الشرقاوي بلغة عربية فصحى رصينة تحمل دلالاتها عمق الحدث ودقة التصوير، رمز بها المخرج والكاتب للعروبة المتأصلة في أرض البحرين.
شاعر بين الناس
إن مبدع مسرحية «البئر» علي الشرقاوي ليس من الشعراء الذين يجلسون في برج عاجي حالم مترنم بصفاء النجوم، وتلامس الكواكب، وجمال لقاءات العشاق، إنما هو شاعر معجون بهموم الوطن ، دائم التفكير في قضاياه، معبراً عن آماله وآلامه. وعندما يطالع القارئ أعماله الشعرية أو المسرحية سيتجلى أمام عينيه المجتمع البحريني بإنجازاته وإخفاقاته، وأحلامه وتطلعاته ، فترى كلماته تتراقص في احتفالية مبهرة مع نجاحات الوطن ، وتراه يعتصر ألما مع مشكلة أو إخفاق أو أزمة تمر بها البلاد. وفي رد له على سؤال: يتهمك البعض أنك رغم تنوع دواوينك الشعرية السابقة، إلا أنك تحولت إلى شعر المدح وبقوة، فلماذا هذا التحول؟ قال الشرقاوي: «أعترض على عبارة «المدح» وبقوة ، ذلك لأني امتدح فترة التحول الأخيرة لدينا في البحرين، بما منحته الإنسان من حرية، وما حققته لي كمواطن بحريني لطالما حلم أن تتحول الزنازين إلى متاحف، وتجلى هذا في ديواني ( الرعد في مواسم القحط )، امتدحت أحلامي التي تحققت بعد أن صرنا البلد الوحيد في العالم الذي لا يحتوي على معاقل سياسية ومعتقلين سياسيين. أي أن كل ديوان ومسرحية لعلي الشرقاوي قدمها، كانت شاهد عصر، ورسول صدق لما يحدث على أرضه ووطنه».
إن مملكة البحرين تشهد حراكاً ثقافياً مدهشاً، ومع حرص حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى على الارتقاء بكل مناحي الحياة البحرينية، يتوجب علينا أن نلفت الأنظار إلى وجوب الاهتمام بمثل هذه الأعمال الشابة وإبداعات طلاب الجامعات، ورعاية هذه النوابغ الجديدة التي تساهم لا شك في معالجة قضايا وهموم هذا الوطن العزيز، والتعبير عن طموحاته وآماله ، وتجسيد معوقاته وآلامه، وإلا فإن الحجر المرفوع الساقط على رأس الأخ من أخيه قد يتخذه البعض علاجاً عندما يغيب الوعي، ويتيه العقل، وتنعدم الرؤية.
* رئيس قسم الإعلام والعلاقات العامة بجامعة المملكة
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}