بقلم - محمّد محمّد الخطّابي: استوقفتني دراسة قيّمة مطوّلة تحت عنوان «واقعية الشاعرات العربيّات الأندلسيّات» بقلم الكاتبة الإسبانية كلارا خانيس. من شأنها أن تعطي القارئ الغربي على وجه الخصوص، فكرة واضحة عن الشأو البعيد الذي بلغته المرأة العربية في ظل الحضارة الأندلسية، من تقدّم و ازدهار ورقيّ ينمّ عن حسّ مرهف وشعور رقيق، ورفاهية مترفة. استهلت الباحثة عرضها بتمهيد واف حول وظيفة الفنّ وبعده وتأثيره في الحياة. واعتبرت الكاتبة موضوع الشاعرات الأندلسيات اكتشافاً عظيماَ ومفاجئاً بالنسبة لها في عالم الإبداع النسوي. وعالجت بعد ذلك قضية الخلق الأدبي عند المرأة بشكل عام، مستشهدة بقول الكاتبة فرجينيا وولف عن الصعوبات التي لا حصر لها، التي تواجه المرأة عند الكتابة. وأشارت أن الكتابة عند المرأة لا تتمّ إلا إذا توفّرت لها شروط منها التواجد في عصر بعينه يسمح لها فيه المجتمع بالمشاركة في الحياة العمومية، مع توفير مستوى ثقافي معيّن. فضلاً عن ضمان حرية القول والتعبير، والانتماء إلى نمط اجتماعي بذاته. وتضيف الكاتبة عنصراً آخر ليتسنّى للمرأة مزاولة عملية الخلق والإبداع وهو الانفتاح في العادات، وعدم تحجّر التقاليد مثلما كان عليه الأمر في المجتمع الأندلسي. الحبّ العذري انتقلت الباحثة بعد ذلك للحديث عن الحبّ العذري عند العرب. وكيف أنه انتقل عن طريق الأندلس إلى فرنسا، ودخل أرقى بلاطات الحب والهوى والصبابة. ثم انتقل إلى بعض البلدان الأوروبية الأخرى وبالخصوص إيطاليا بواسطة برونيتو لاتيني، الذي كان سفيراً لبلاده لدى بلاط الملك الإسباني ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم أو العالم في القرن الثالث عشر الميلادي. والذي تربطه بالحضارة العربية رابطة وثقى، نظراً لإعجابه الكبير بها ونهله منها و تأثره بها. ويشير شيخ المستشرقين الإسبان الراحل «إميليو غارسيا غوميس» عند تقديمه لكتاب «طوق الحمامة» للفقيه الأندلسي ابن حزم، إلى أن الحبّ العذري دخل الأندلس حوالي 890 م. وكان لابن حزم تأثير واضح في هذا القبيل خصوصاً في البلاطات الأوروبية. ومعروف أنّ هذا العالم الأندلسي سبق بقرون وبذّ العديد من علماء النفس الأوروبيين أمثال كارل كوستاف يونغ وألفريد أدلر، وسيجموند فرويد وسواهم، بملاحظاته العلمية الدقيقة، وبتفسيراته وتحليلاته للإمارات والعلامات والتغييرات التي تعتري أو تطرأ على الحالة النفسية للعاشق المحبّ الولهان في كتابه الآنف الذكر «طوق الحمامة»، الذي ترجم إلى عديد من اللغات الحيّة. وتذهب الباحثة الإسبانية إلى القول بأن التمعّن في الشعر النسائي الأندلسي أمر يبعث على الإعجاب والانبهار، ويثير دهشة الغرب سواء لدى القراء أو الباحثين، نظراً لما تتضمّنه هذه الأشعار من عذوبة ورقّة وحرية في التعبير لا يمكن أن تقارن سوى بحرية التعبير الموجودة في الوقت الراهن. وكيف أن هذه الحرية لم تتمتّع بها المرأة الغربية في تاريخها إلى اليوم. وتورد رأياً للباحث أدولفو فديريكو شباك مفاده أن الحرية التي تمتّعت بها المرأة العربية في الأندلس بزّت الحريات التي كانت لدى المرأة في المجتمعات الإسلامية الأخرى. ويمضي المستشرق هنري بيريس في الاتجاه نفسه الذي يضع المرأة الأندلسية في مراتب راقية تتساوى فيها مع الرجل، بل إن المرأة الأندلسية كانت تتوارد على نوع من الأكاديميات التي تتعلم فيها الفنون المختلفة، والعلوم التي كانت منتشرة في ذلك العصر، وأشهر هذه المدارس كانت موجودة في قرطبة. كما تورد نصّاً لابن بسّام الشنتريني صاحب» الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» يصف فيه امرأة عربية خرجت من إحدى هذه المدارس، متحدثاً عن جمالها ومشيتها وصوتها، ومواهبها وثقافتها. بل إنها كانت تجيد استعمال الأسلحة..الخ، حيث لم يكن لها نظير في ذلك كله. وتشير الباحثة أن الشأو البعيد الذي بلغته المرأة العربية في المجتمع الأندلسي لم تدركه زميلتها المرأة المسيحية في ذلك الإبّان. وتشير إلى أن الشاعرات الأندلسيات لم ينحصر شعرهن في موضوع الحبّ والغزل والشكوى والعتاب وحسب- وان كان هو الأغلب- بل تعدّاه إلى مواضيع وأغراض أخرى كالمدح والهجو ووصف الطبيعة، فضلاً عن شعر الحكمة. ولم يعن أحد بجمع هذا الشعر ضمن ديوان، بل ظل مبثوثاً في بطون المخطوطات، وفي أمّهات الكتب التي تؤرّخ للأدب الأندلسي. وتصف الباحثة أسلوب هذا الشعر بأنه أسلوب طبيعي وتلقائي يخضع لقواعد شعر المشرق، بل إن بعضهنّ كنّ يلجأن إلى معارضة شعر الرجال، أو استكمال مقطوعات شعرية، أو التعبير عن خواطر عابرة، أو الإجابة عن تساؤل محيّر، أو الدفاع عن النفس حيال أيّ تهجّم أو إهانة. ولقد تعرّف المعتمد ابن عبّاد على اعتماد الرميكية بالمساجلة الشعرية، حيث كان ابن عبّاد قد طلب من خلّه ابن عمّار أن يجيز بعد أن قال المعتمد: (صنع الرّيح من الماء زرد)، فلمّا تردّد ابن عمّار، وتأخّر في الإجازة أي في أن يتمّ مصراع ابن عمّار، بادرت الرميكية على الفور والتي كانت بالصدفة توجد بجوار نّهر الوادي الكبير، فقالت: (أيّ درع لقتال لو جمد) فتعجّب المعتمد من جوابها وسرعة بداهتها. تفوّق الشعر الأندلسي أجرت الكاتبة مقارنة بين الشاعرات العربيات بالأندلس وشاعرات إسبانيات عشن في عهود موالية للعهد الأندلسي، إلا أن قصب السبق في معالجة الموضوعات بواقعية وذكاء مع دقة الملاحظة وعمق المضمون وخصوبة المعنى وجمال المبنى، كل ذلك كان من نصيب الشاعرات العربيات في الأندلس. وأشارت الباحثة إلى أن الشعر العربي بشكل عام في الأندلس كان له تأثير بليغ وحاسم في الشعر الإسباني فيما بعد، تجلى ذلك جليّا لدى «الجيل الأدبي 1927» الشهير الذي ينتمي إليه غير قليل من مشاهير المبدعين الإسبان ذوي الصيت العالمي مثل «فثينطي ألكسندري» الحائز على جائزة نوبل في الآداب، وكذا «خوان رامون خمينيث» الحاصل على هذه الجائزة العالمية كذلك. يضاف إلى هذين الشاعرين أسماء أخرى مثل خيراردو دييغو، دامسو ألونسو، العالمي فيديريكو غارسيا لوركا، فضلاً عن الشاعر رفائيل ألبرتي، الذي يعترف صراحة في العديد من أعماله الأدبية بتأثير الشعر العربي في الأندلس عليه وسواهم. أشهر الشاعرات من أقدم الشاعرات الأندلسيات التي تعرّضت لها الباحثة «حسّانة التميمية»، وهي من إلفيرا بغرناطة. ولدت خلال إمارة عبدالرحمن الداخل (756 - 788م) وأوردت قصيدة مدح لها بعثت بها إلى الأمير الحاكم الأول، تطلب منه فيها حمايتها من جور حاكم غرناطة. ومن أشهر الشاعرات الأندلسيات التي ورد ذكرها في كتاب نفح الطيّب للمقرّي، وهو من أكبر المصادر القديمة التي حوت ثبتاً لكثير من أسماء الشاعرات الأندلسيات، وفي جدوة المقتبس للحميدي، والصلة لابن بشكوال، والتكملة لابن الآبّار، و في سواها من المصادر العربية الأخرى نجد لبنى كاتبة الحاكم المستنصر، الشاعرة الغسّانية، حفصة بنت حمدون الحجارية، أمّ الكرام بنت المعتصم ابن صمادح، غاية المنى، اعتماد الرميكية زوجة المعتمد، عائشة بنت قادم القرطبية، مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري، أم العلاء بنت يوسف البربرية، حمدة بنت زياد المؤدّب وأختها زينب، قمر جارية ابراهيم اللخمي، أنس القلوب، مولاة أبي المطرف بن غلبون العروضية، مهجة ومتعة القرطبيتين، نزهون الغرناطية، العبّادية والدة المعتمد، بثينة بنت المعتمد ابن عبّاد، أم المنى، الأديبة الشلبية، أسماء العامرية، حفصة الركونية، والشاعرة الأميرة ولادة بنت المستكفي الخ. نماذج من أشعارهنّ نكتفي كمثال لشعر هذه الأسماء الوافرة بشاعرتين أندلسيتين اثنتين، تقدمان لنا الدليل على مدى تفوّق وسيطرة الشاعرات العربيات في الأندلس على ناصية الشعر، وتمكنهنّ من قرضه. وقد أثبتت الباحثة الإسبانية مقطوعات شعرية لاحداهنّ وهي ولاّدة صاحبة ابن زيدون التي تقول: «ترقب إذا جنّ الليل زيارتي/ فإنّي رأيت الليل أكتم للسرّ. ولي منك ما لوكان بالشمس لم تلح/ وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر». كما إنّها اشتهرت ببيتين من الشعر قيل إنّها كانت تكتب كل واحد منهما على جهة من ثوبها: «أنا واللّه أصلح للمعالي/ وأمشي مشيتي وأتيه تيها. أمكّن عاشقي من صحن خدّي/ وأعطي قبلتي من يشتهيها». وولاّدة هي بنت الخليفة «المستكفي بالله»، كانت واحدة زمانها في الأدب و الشعر، حسنة المحاضرة لطيفة المعاشرة ، مع الصيانة والعفاف. وكان ابن زيدون يتعشقها وله فيها القصائد الطنانة والمقطوعات البديعة، أشهرها نونيته التي يقول في مطلعها: «أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا/ وناب عن طيب لقيانا تجافينا». وكانت ولاّدة أولا تطارحه شعراً بشعر، وتبادله حبّا بحب، ثم قلبت له ظهر المجن وصارت تهجوه، وكان لها مجلس يغشاه أدباء قرطبة وظرفاؤها، فيمّر فيه من النوادر و إنشاد الشعر شيء كثير. أما الشاعرة الثانية فهي حمدة أو حمدونة بنت زياد المؤدّب. كان يقال لها خنساء المغرب لقوة شعرها، و سموّ إبداعها . ولها المقطوعتان العجيبتان المشهورتان بالمشرق والمغرب واللتان ما زال أهل البلاغة يجعلونهما مثلاً أعلى للنسج على منوالهما و الحذو على حذوهما، تقول في المقطوعة الأولى: «ولمّا أبى الواشون إلاّ فراقنا/ وما لهم عندي وعندك من ثار ... وشنّوا على أسماعنا كلّ غارة/ وقلّ حماتي عند ذاك وأنصاري ... غزوتهم من مقلتيك وأدمعي/ ومن نفسي بالسيف و السّيل والنار». وتقول في المقطوعة الثانية وهي مشهورة جداً: «وقانا لفحة الرمضاء واد/ سقاه مضاعف الغيث العميم ... حللنا دوحه فحنا علينا/ حنوّ المرضعات على الفطيم ... وأرشفنا على ظمأ زلالاً/ ألذّ من المدامة للنديم ... يصدّ الشمس أنّى واجهتنا/ فيحجبها ويأذن للنّسيم ... روع حصاه حاشية العذارى فتلمس جانب العقد النظيم».