كتب ـ أمين صالح:
الأب يحب أولاده ويريد لهم أن يعيشوا في وضع أفضل وحياة سعيدة بلا منغصات، يتمنى أن يصبحوا رجالاً ناجحين في أعمالهم وحياتهم الأسرية، لكنه يذهب في الاتجاه الخاطئ.
يعتقد أنه من خلال الانضباط الصارم، وتدريبهم على العنف كوسيلة للدفاع عن النفس، وإقناعهم أن العالم قائم على الحيلة والخداع، وأن النجاح لا يتواءم مع الطيبة الزائدة، فإنه يهيئهم لما يواجهونه في العالم الحقيقي خارج البيت، الحياة القائمة على الصراع والتنافس وانتهاز الفرص.
في تأديته لدور الأب، كان براد بيت في فيلم «شجرة الحياة» لتيرانس ماليك واعياً لإشكالية الرجل وتناقضاته، فلم يظهره في صورة أحادية الجانب، بل تعامل مع الدور بحساسية عالية، فجعلنا ننفر من الأب في بعض الحالات ونتفهم سلوكه، بل ونتعاطف معه في محنته كشخص لم تتوفر له الفرصة لتحقيق طموحاته.
الأب يمثل الطبيعة التي تتمثل في النشوء.. مسار القسوة والخشونة.. التجربة والريبة.. هو في حالة حرب دائمة مع نفسه.. مليء بالشك، بالمرارة، بكراهية النفس.. هو يعمل مهندساً ولا يجد متنفساً للتعبير عن ولعه بالموسيقى «الموهبة التي تخلى عنها لتحقيق طموح أكبر في الحياة» عبر عزفه على الأرغن في الكنيسة، والإشراف على تعليم أولاده العزف.
في حديثه عن الفيلم ومخرجه، يقول براد بيت «وهو أحد المساهمين في إنتاج الفيلم، والذي حاز جائزة أفضل ممثل من جمعية نقاد نيويورك عن دوره في الفيلم إضافة إلى دوره في فيلم Moneyball»، «العمل مع ماليك لا يشبه أي عمل قمنا به من قبل.. عادةً هناك في موقع التصوير، تجد الكثير من الأنوار الكاشفة، الكثير من الشاحنات وعربات النقل، وضجيج المولدات الكهربائية، وسيناريو تحاول أن تقرأه بتركيز ملتزماً بما هو مكتوب في المشهد، أما مع ماليك، فإنه يذهب في الاتجاه المعاكس.. عدد الفنيين قليل جداً، لا أنوار كاشفة، لا معدات ضخمة.. ليس لدينا غير كاميرا محمولة باليد، وإضاءة طبيعية، وإعادات قليلة للقطات المصورة، ومخرج غير مهتم أو غير حريص على تنفيذ المشهد كما هو مكتوب في النص، بل يفضل أن يجد النواقص والشوائب، هو باستمرار يحاول أن يلخبط المشهد ويفسده بطريقة ما، ليرى ما سوف يحصل عليه من هذا الفعل».
وضيف «أظن أن ماليك يحاول أن يقول إن هناك ألغازاً في الحياة ونحن نحاول أن نفهمها ونفسرها من خلال الدين، ونحاول أن نجد بعض العون والمؤاساة والراحة في تلك الألغاز أو الحالة الزائلة، وأعتقد أنه يجاهد من أجل قبول المجهول، وما يتضمنه من سلام وجمال، الأطفال الذين هم البؤرة الأساسية في الفيلم، هؤلاء الصغار، لم يكن مسموحاً لهم أن يقرؤوا السيناريو، لهذا لم يعرفوا حقيقة ما يفعلونه، أحياناً كانوا يحصلون سلفاً على ملخص مختزل للمشهد».
بينما الأم البالغة الرهافة تريد أن ترى أولادها سعداء ومطمئنين، فتتقاسم معهم اللعب، وتحيطهم بالعناية والأمان والحب والحنان، وتساعدهم على الإحساس بالجمال المحيط بهم.
الأم تمثل النعمة، أو الفضيلة النابعة من الإيمان الروحي، مسار المحبة والغفران، البراءة والثقة، إنها تسعى إلى إظهار أن العالم يمكن أيضاً أن يمتلئ بالجمال والسلام لأولئك الراغبين والقادرين على الانفتاح على الآخرين والتسامح والمغفرة والمرونة والتضحية والعطاء، الحب هو الطريق الوحيد المؤدي إلى السعادة.
الفيلم يظهرها في صورة مثالية، كأنها كائن سماوي هي تقول «هناك طريق الطبيعة وطريق النعمة، وعلينا أن نختار أي طريق نتبع».. النعمة تصون كرامتها ونبلها وسموها وتواضعها رغم الظلم والأذى والعدوانية المستمرة، بينما الطبيعة أنانية تطالب بالرعاية والاعتناء والإشباع وتهيمن على ما يوجد في محيطها.. طريقان غير منفصلين بل متشابكان ومتداخلان، ولا يمكن لأحدهما أن يوجد دون الآخر.
جيسيكا شاستين الممثلة الجديدة الصاعدة، التي شاهدناها في عدد من الأفلام المهمة، أدت دور الأم برهافة وإقناع، دورها صامت في أغلب الأحيان، وهو يشكل عادة تحدياً للممثل، غير أنها أثارت تعاطفنا منذ اللحظة الأولى، وجعلتنا نتفاعل مع مشاعرها وهي تجسد الحب الأمومي في كل تجلياته وتعبيراته، لها في هذا الفيلم حضور جميل، هادئ، رشيق ومتناغم مع الإيقاع البصري. وحازت جائزة نقاد نيويورك كأفضل ممثلة مساعدة عن أدوارها في الفيلم وفيلمين آخرين هما The Help و Take Shelter.
تقول جيسيكا شاستين «أجريت العديد من المحادثات مع تيرنس ماليك قبل أن أحصل على الدور.. كان يقول لي هذه امرأة تبدو كما لو من زمن آخر.. لديها الكثير من الحب الذي يخلو من الأنانية.. إنها تحب للآخرين ما تحبه لنفسها.. إنها تنحاز للنعمة والجمال والفضيلة والحب في هذا العالم.. هذا ما كان ماليك يصفه لي باستمرار حتى قبل أن أستلم النص، وعندما وصلني السيناريو وقرأته، أدهشني حقاً.. هي فعلاً تمثل العالم الروحي، واقترح علي ماليك أن أتأمل اللوحات التي تظهر فيها مريم العذراء.. هكذا أمضيت ساعات في متحف الفن الحديث أشاهد صور العذراء في اللوحات، نعم بطريقة ما هو هداني إلى الطريق الذي يفضي إلى دراسة وتأمل النسوة اللواتي حملن بداخلهن الكثير من النعمة والسمو».