كتب ـ علي الشرقاوي:
قبل أن يتعرف الإنسان البحريني على البيت الطيني، وفي مرحلة سابقة لتشكل فضاء «البادكير» من أجل تدوير التيارات الهوائية،
قبل كل ذلك كانت بيوت السعف.
البيئة ـ كما هو معروف ـ تمنح الإنسان المواد الأولية اللازمة لتيسير شؤون حياته اليومية، ومن خلالها يتمكن من بناء عمران يقيه حر الصيف وقر الشتاء، وتحميه من الحيوانات المفترسة وعيون المتلصصين من أبناء جلدته.
ولأن النخلة كانت متوفرة في البحرين، وكما يقال «بلد المليون نخلة»، لذلك طوعها من يملكها في كل شيء، ابتداءً من أكل ثمارها في كل مراحله من الطلع إلى الرطب والتمر، مروراً بسقف العمارات وبنائها من الجريد والسعف والكرب، وانتهاء بجدل الحبال من ليفها.
من جذع النخلة إلى «الدنجل»
في نظرة سريعة لتاريخ البيت البحريني القديم، وكيف مر بمراحل عدة حتى وصل لحالته الراهنة اليوم، نجد أن البيت البحريني التقليدي حتى نهاية الستينات كان يسقف بالسعف والجريد، بينما تشكل جذوع النخل قوائم تحملها، حيث لم توجد حينها أخشاب قوية لاستخدامها في عملية البناء.
ومع حركة التجارة وبالذات تجارة الأخشاب، اكتشف التاجر البحريني وجود أنواع من الخشب قادرة أن تكون بديلاً لجذوع النخل في إشادة البيت التقليدي، فكان «الدنجل» هو الخشب الوحيد الذي بدأ استخدامه منذ نزوله البحرين.
و»الدنجل» أو «القندل» أو «الجندل» وهو من أشجار المانجروف «الأيكة الساحلية» التي تنمو في مناطق السواحل والشطآن وعلى ضفاف الأنهار.
لـ»القندل» أو «الدنجل» ميزات وقدرات عجيبة على النمو مثل شقيقتها القرم، وكسائر المانجروفيات تنمو بذور «القندل» وهي لا تزال على الشجرة الأم، ولكن بطريقة مختلفة عن القرم، حيث تبدأ بذرة «القندل» في النمو حتى يصل جذرها إلى طول متر تقريباً، ويكون الجذر حاداً ورمحي الشكل لتسهيل اختراق التربة، ثم يسقط على اليابسة ويستقر في التراب مكوناً شجرة جديدة.
سبب هذه الخاصية في نمو شجرة القندل، هي كونها تنمو في مناطق ضحلة تشبه المستنقعات، حيث تكون التربة رديئة التهوية ومشبعة بالماء وغنية بالبقايا المتحللة، ما يرفع نسبة ثاني أكسيد الكربون الناشئ عن تحلل المواد العضوية، فلا تجد جذور الشجرة كفايتها من الأكسجين اللازم لتنفسها، فتنمو الجذور ـ على عكس باقي الأشجار ـ من الأجزاء السفلى وتتجه للأعلى ضد الجاذبية الأرضية بحثاً عن منفذ للتنفس بدلاً من اتجاهها إلى الأسفل.
توجد على أوراق أشجار القندل غدد ملحية، كل غده مكونة من أكثر من خلية، وهذه الغدد تعمل كمضخات تدفع بالأملاح الزائدة إلى خارج جسم الشجرة، وتحفظ توازن الأملاح داخل الشجرة.
تعتبر أشجار القندل مرعى جيداً لقطعان الإبل والماشية نظراً لارتفاع نسبة البروتين في أوراقها، ويستخدم مستخلص أوراق المانجروف لعلاج أمراض الفم والكبد.
وتوفر أشجار القندل بيئة غنية ومجالاً حيوياً لعيش وتكاثر الكثير من الكائنات البحرية و البرية والطيور، وهي تحد من انجراف التربة وتثبيت رمال الشواطئ.
أشجار القرم
نبات القرم من النباتات الشاطئية واسمه باللاتينية Avicennia نسبه للعالم ابن سينا، وكلمة منقروف Mangrove تعني النباتات الشاطئية، وتسمى أيضاً أشجار القرم أو الشورى أو القندل أو الجار.
تعيش هذه النباتات على الماء المالح ولا تحتاج لماء عذب، وتنتشر وتنمو بالمناطق الاستوائية وهناك العديد من السلالات والأنواع المختلفة منها.
عرف نبات القرم منذ القرن الرابع قبل الميلاد واكتشفت فوائده الطبية، وكتب عنه العرب قديماً إن «لا شوك له ويصلح هذا النبات كمرعى للإبل والبقر تأكل من أوراقه وأطرافه».
وهناك شجيرات من المنقروف يصل ارتفاعها إلى 3 أمتار، وتعتبر أجواء البحرين مثالية لنمو هذه الأشجار، وهي وتحتاج لنموها إلى مناطق طينية تكون من مكوناتها مواد عضويه متعفنة، وهذا النوع من الطين تجد لونه أسود ورائحته عفنة، ومن مهمات هذه الشجرة مقدرتها العالية لسحب السموم من التربة.
المناطق الهادئة مثل الخلجان والشواطئ المحمية من الأمواج مكان مناسب جداً لنبات القرم «المنقروف»، وهناك فؤاد أخرى كثيرة من هذا النبات تبدأ من تثبيت التربة والحد من تآكل الشواطئ، وتعتبر مكاناً آمناً للطيور المهاجرة تستظل فيه ويعطي إضافة جمالية لخضرته طوال أيام السنة، إضافة لتميز شكل جذوره المتشابكة المغمورة تأخذها الأسماك مكاناً وملجئ لصغارها ومأوى لوضع البيوض، وهو محبب عند الربيان والكثير من الكائنات الأخرى وبهذا أصبح نبات القرم سبباً لرفع إنتاج الأسماك، وإن صح التعبير أشجار الشورى «المنقروف» تعتبر حاضنات ورحم البحر.
وأظهرت بعض الأبحاث فوائد بيئية كثيرة لنبات القرم، مثل تقليل الأثر البيئي من نواتج تصريف مخلفات مزارع الأسماك والربيان، وأجري تحليل كيميائي على نبات القرم واتضح احتوائه على مواد تعتبر مصدراً لإنتاج الهرمونات المقوية ويصلح لعلاج أمراض اللثة والكبد.
وأظهرت الدراسات الحديثة أن نبات القرم أفضل خط دفاعي للسواحل خصوصاً في حالة تعرض الشواطئ لانسكاب بترولي، هذه النباتات لديها المقدرة لتحليل وتفكيك المواد البترولية لكن على المدى الطويل.
تشكيلات «الدنجل» في البيوت القديمة
عندما نجلس في إحدى البيوت البحرينية القديمة، وما أن نتأمل السقف الذي يبرز منه الدنجل الحامل للمنكرور، حتى نرى تشكيلات كثيرة، يعكسها حضور الدنجل في عيوننا، ربما تصورناها وجوهاً لأشباح أو أياد أو أقدام طويلة، أو غابات غير متناهية خاصة إذا ربطناها بالمنفرور خلفها، بعضنا يخاف من تصوراته، فيصرف النظر، البعض الآخر يواصل التحديق، مغوياً بهذه التشكيلات التي ما أن نبعد عنها النظر لحظة حتى تختفي التشكيلات القديمة وتظهر بدلاً عنها تشكيلات جديدة مغايرة، وهنا نحاول الحديث عن بيوت لعب الدنجل فيها دوراً كبيراً في تشكيلها الخارجي والداخلي.
بيت الشيخ عيسى بن علي
يقع بيت الشيخ عيسى بن علي آل خليفة في قلب مدينة المحرق عاصمة البحرين القديمة بجوار الجامع الكبير، وتحيط به الأحياء والمنازل والأسواق التجارية.
بناه الشيخ حسن بن عبدالله بن أحمد الفاتح في حوالي سنة 1800م، وسكنه من بعده أبناؤه وأحفاده، ويعتبر من أقدم بيوت المحرق، اتخذه الشيخ عيسى بن علي سكناً ومقراً للحكم، غبان في فترة حكمه التي امتدت 61 سنة ما بين 1868 - 1932م.
وينقسم البيت إلى أربعة أقسام رئيسة تشمل جناح العائلة وجناح الشيخ وجناح الخدم وجناح الضيوف، وللبيت مدخلان رئيسان أحدهما شمالي وهو المدخل الرئيس والآخر لاستخدام الضيوف وللوصول منه إلى الجامع الكبير. يمتاز البيت بالبساطة في التخطيط والتصميم المعماري كما يمتاز بالنقوش الجصية ذات الطابع المحلي، وبني من مواد بسيطة توفر بعضها محلياً كالحجارة البحرية والطين والجص والنورة وجذوع النخل وبعض المواد المستوردة من البصرة والهند وشرق إفريقيا كحصر المنقرور والبمبو والدنجل.
وأعطت مواد البناء هذه وسماكة الجدران البالغة متراً أو يزيد، البيت خاصية مميزة جعلته في حالة تكيف دائمة مع الظروف المناخية المتقلبة في البحرين صيفاً وشتاء.
البادكير.. التكييف المركزي
البادكير عبارة عن بناء مستطيل الشكل مفتوح من الجهات الأربعة، والغرض منه السماح بدخول الهواء من هذه الفتحات إلى داخل حجرة الجلوس، وله أبواب يمكن غلقها شتاءً.
وتعتبر هذه الطريقة شائعة في البحرين للتكييف في الماضي، ويمكن للزائر أن يشعر بدخول الهواء ونزوله من البادكير إذا ما دخل
جناح الخدم، ويضم هذا الجناح المطابخ التي يمكن ملاحظة واجهتها القديمة وتأثير دخان الطبخ عليها.
ويتوسط الجناح حوش صغير فيه «جليب» ويطل عليه من جهة الشمال مخزن «الماجلة» المؤونة، ويقوم هذا القسم بدور كبير في توفير الخدمات لساكني البيت من خلال المنافذ المؤدية منه إلى الأجنحة الأخرى، وتعلو جناح الخدم غرفة من جهة الجنوب تحملها الأقواس المحدبة ويمكن الوصول إليها بجسر صغير جداً يربط سطح جناح الضيوف بسطح جناح الخدم.
ويعتبر حوش هذا الجناح هو ثاني حوش من حيث المساحة بعد حوش جناح العائلة، يتوسطه «جليب» بئر ماء ويطل على الحوش من جهة الشمال ثلاث حجرات صماء تستخدم لإيواء الضيوف في فصل الشتاء، ودرج له باب يؤدي إلى الطابق العلوي، أما في الجهة الجنوبية من الجناح فيوجد ليوان ذو عقود عربية محدبة كان الشيخ يجتمع فيه بضيوفه.
أما في جهة الغرب فتوجد حجرة صغيرة ودرج يؤدي إلى الطابق العلوي، وفي الطابق العلوي ثلاث غرف تتميز بالبساطة والجمال في التصميم والزخرفة واستخدمت لسكنى الضيوف في فصل الصيف.
بيـت الجسرة
بنى هذا البيت الشيخ حمد بن عبدالله آل خليفة سنة 1907م، وفي الثلاثينات سكنه المغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحريـن (1942 ـ 1961)، وشهد هذا البيت مولد المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة في الثالث من يوليو 1933، ويتكون من أربع حجرات في الدور الأرضي وحجرة في الدور العلوي إضافة إلى مرافق البيت الأخرى.
ويعتبر البيت نمطاً من أنماط العمارة البحرينية القديمة، ويتميز ببساطة بنائه حيث شُيد من الأحجار البحرية والطين والجص وجذوع النخل في بناء الجدران الداخلية والخارجية للمنزل، وجذوع النخل والدنجل والباسجيل والمنقرور في السقوف.
وبني البيت بأساليب معمارية تتلاءم مع طبيعة المناخ الحار في البحرين، فالجدران سميكة لعزل الحرارة الخارجية، كما أن فتحات دخول الهواء
«البادكير» المحيطة بسطح البيت تجلب الهواء إلى الداخل، فيما تساعد فتحات التهوية بالغرفة على تجديد الهواء الداخلي، كما أن اتساع
فناء البيت «الحوش» يرمي لاحتواء التيارات الهوائية والتقائها بالقواقع البحرية الصغيرة «الصبان» المفروشة بأرضية الحوش، ما يؤدي إلى تلطيف حرارة الشمس بالداخل، ويضفي على البيت شعوراً بالنقاء والنظافة.
وأدخل على المبنى بعض الإضافات الضرورية كالمجلس الذي شيد في الجهة المقابلة للبيت، وأنشئ على نفس النمط المعماري لتلك الفترة، كما أقيمت مرافق لخدمة زوار المتحف في الجهة الأخرى من المبنى، وزرعت الساحات المحيطة بالبيت بالأشجار التي اشتهرت بها البحرين كالنخيل واللوز والرمان والتوت والبمبر والصبار وزينت حواشيها بالأزهار والمشموم والريحان.
أقسام بيت الجسرة
المجلس ويمتاز بوجود باب خارجي وآخر داخلي يطل على البيت ويخصص عادة لضيوف البيت من الرجال، وتفرش أرضية المجلس بالمداد،
ويغطى بالسجاد الفارسي، ويضم جلسة عربية مكونة من مفارش ومطارح مطرزة بزخارف بسيطة.
الدار وتعتبر هذه الحجرة مهمة جداً في البيت حيث يتجمع فيها أفراد الأسرة، إلى جانب كونها حجرة للنوم ويوجد فيها حمام «قطيع»
ومن أقسام البيت أيضاً حجرة المعيشة، والمقعد وهي حجرة مخصصة لاستقبال الضيوف من النساء، والغرفة وتقع في الطابق العلوي وقد أضيفت فيما بعد وكانت خاصة بالشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، وتمتاز هذه الغرفة ببرودتها، حيث النوافذ فيها متعددة وتطل على ثلاث جهات.
المطبخ ويوجد فيه نماذج من أدوات الطبخ في تلك الفترة، إلى جانب لوازم حفظ الطعام القديمة كالمرفاعة والنملية وغيرها.
المدبسة وتمتاز بعض البيوت البحرينية القديمة بوجود المدبسة فيها، وهي عبارة عن قنوات مبينة من الحجارة الممسوحة بالجص، توضع عليها
أكياس التمر فوق بعضها البعض، وبفعل الضغط والحرارة يتسرب الدبس إلى هذه القنوات ومن ثم يتجمع في القناة الرئيسة وتصب في إناء فخاري «الجحلة».
السيم وهو عبارة عن سطح مرتفع قليلاً عن الأرض يقام عادة في فناء البيت، وهو مصنوع من السعف والجريد ومثبت بالدنجل وجذوع النخل، ويستخدم للنوم في ليالي الصيف الحارة أو لجلسات وقت العصر حينما تخف حرارة الشمس.
عمارة بن مطر
شيدت عائلة بن مطر هذا المبنى عام 1905 على يد البناء المشهور آنذاك موسى بن حمد، واستخدمه سلمان بن حسين بن مطر مجلساً دائماً له ولكن مع بداية الأربعينات تحول المبنى إلى عيادة كان يديرها الطبيب العام بندر كار، والذي انتقل منه بعد الخمسينات إلى عيادة أخرى وتحول هذا المبنى المميز مقراً لنادي الإصلاح الذي شغل الطابق الأرضى منه، أما الطابق العلوي أقامت فيه عائلة بن مطر حتى عام 2002.
ومنذ نهاية عام 2002 وحتى بداية الترميم والتأهيل بقي هذا المبنى شبه مهجور وكاد أن يهدم تماماً لولا مبادرة مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة وبنك أركابيتا لكان هذا المبنى قد أزيل لتبنى مكانه مبانٍ أخرى لاتحمل الطابع الخاص للعمارة التقليدية.
زمن الدنجل
إن زمن الدنجل هو زمن الطيبة والفطرة والحياة العفوية زمن التصورات الطفلية والأشكال المتخيلة التي لا تتوقف عن التوالد، كان الدنجل في طفولتنا هو الأعمدة الأساسية لبيوت السعف البرستي والكبر والمعرش والطيارة، ثم بعد ذلك استخدم لتسقيف بيوت الطين واستخدم في أعمدة الحظرة وخض اللبن، وصناعة أسوار مفتوحة لحظائر الأغنام والأبقار والدواجن، وإذا تسوس الدنجل، فإنه يستخدم خشباً للتنور أو فحماً لمواقد الشتاء.