قالت لي حين رأت الجميع يذرف الدموع في مجلس العزاء: ستستمر الحياة يا مريم حتى مع حزنكم الشديد... رددت في خاطري: “لابد أن تستمر، وستستمر، لكنها لن تعود كسابقتها...”فبعض الشخوص نسج خاص، صنف فريد، لون بهيج مميز، وغيابه كغياب جموع عديدة من الرجال يتساوى معهم الحضور والغياب. فلا تواسيني في فقد إبراهيم، لأنك لن توفي حقه بالكلمات، لكن دعي دموعي وذكرياتي معه تتحدث، فهي أقدر وأبلغ. المكان: مجمع السلمانية الطبي، الزمان: الجمعة 9 مارس 2012 الوقت: الثانية وبضع دقائق بعد الظهر. دقائق قليلة فصلت بين اتصال ممرضات الجناح لإبلاغنا بنزول ضغط إبراهيم وتذبذب حالته، وبين وصولنا وتحلقنا حول سريره، وهو في سكون وهدوء غيبوبته منذ شهرين اثنين.. وبذات الهدوء نقل يوم أمس الخميس من الرياض لمجمع السلمانية، وبذات الهدوء... رحل. كانت لحظة تجردت من المنطق والعقل والرشد، كانت أشبه بحلم مزعج ليس منه استفاقة. اليوم: السبت، المكان: مقبرة المنامة. امتلأت المقبرة بوفود نعرفهم وكثير ممن لا نعرفهم، ممن أحبوه، وممن نالهم من طيب خلقه، ومعروفه، وإحسانه بالسر.. توافدوا لدفنه ولوداعه في مشهد مهيب، الكل في لوعة الفقد ودموع الحزن يسكبها الرجال قبل النساء.. وتخبرني إحدى القريبات بأن أحد أصحاب البرادات المحاذية للمقبرة يسأل زوجها: “من هذا الذي تدفنون؟ هل هو مهم لهذه الدرجة؟” من شدة الحشود والجموع الذين طال بهم الدفن والعزاء حتى ما يقارب الساعات الثلاث. وكذلك ذاك الرجل الذي جاء يؤدي واجب العزاء وهو لم يعرف إبراهيم قط بحياته، لكنه حرص أن يعزي أهله في وفاته لما سمع عن مآثر هذا الرجل الطيب، ولكثر ما ذكرت فضائله في التويتر. ولو عرفوك يا خالي العزيز كما عرفنا! ولو عاشوا معك كما كنا! لما سأل أحدهم من تكون.. ولكن كان سيسأل: كيف سأكون من بعدك؟. هكذا كنت يا أبا عبدالعزيز.. وهكذا احببناك. رحل بوعبدالعزيز إلى ربه بعد رحلة صبر جميل واحتساب مع مرضه العضال، رحلة قاربت السنة منذ تشخيص ورم رأسه، وخضوعه للعملية الجراحية بمستشفى الملك فيصل التخصصي، وبين العلاجات الكيماوية والإشعاعية، وحتى دخوله في الغيبوبة الأخيرة قبل شهرين اثنين.. جرب خلالها كل أنواع الالم والمعاناة بمقياس البشر، لحظات صعبة أن ترى الرجل النشيط الذي يقيم ليله، ويصحو فجرا، ويقوم على حقوق عياله وأهل بيته، ويصل الجميع ويؤدي حاجتهم قبل السؤال، صعب أن ترى ذات الشخص في موضع ألم أو عجز.. لكنه يلجمك بصبره الجميل! جميل بكل معاني الاحتساب والحمد والشكر والتسليم الفعلي لقضاء المولى.. لم يئن ولم يشتك ولم يسئ خلقاً لمن حوله بحجة مرضه.. بل كان من يحرجك بتمام صبره وجميل رضاه وقوة إيمانه.. وفي أيام مرضه الأولى، مازلت أذكر الرحلة الأخيرة التي أخذ فيها أهل بيته ليستريحوا من هَمِّ مرضه! كان بوعبدالعزيز هو الرأي السديد حين تحار بك الاختيارات وتحتاج لمن تثق بخبرته.. كان الصدر. الحنون الذي سيسمع منك دون منة أو انتقاد.. وأجمل صفاته على الإطلاق، وهي التي عرفناه بها مذ كنا صغارا، هي خفة ظله وحلو معشره وحبه للنكتة.. فقد كان يجمل به المجلس ويطيب أيما كان... لابد أن تحب مجالسته ولابد أن تبتسم... وكم يعز علينا الاجتماع من جديد من دون ضحكاته الجميله الصادقة.. كان نقي السريرة.. لم أره حاقدا او كارها قط.. يحفظ ود أصحابه بدرء المراء والجدال والنقاش العقيم وان كان على حق.. يحفظ ود أصحابه ويرعى حقوقهم، وفيا” لأبنائهم وأهليهم من بعدهم كما كان مع أهل وأبناء صديق عمره الذي وافاه الأجل قبل سنين عديدة “عبدالله المدني”.. كان محباً” لمد يد العون، ولابد أنه قد أعانك بشكل أو بآخر: فهو رائع الأفكار، منظم بطريقة مبهرة، ومتقن في عمله فقلما يحتاج لسمكري أو حداد أو عامل تصليح.. أسس وأدار حملة الإصلاح للعمرة، وبرغم آلام الديسك بين الفينة والأخرى، فقد تفنن في رفع مستوى الحملة وخدمة معتمري بيت الله الحرام، كانت عمرات محرم وغيرها هديته لربه يقدمها بكل إتقان وحب.. ويشهد له كل من زار بيت الله الحرام في إحدى تلك الرحلات.. إنسان محب، هكذا عرفناك وأحببناك..وهكذا اختار لك الله درباً للنعيم الأبدي وأعلى مراتب الجنان.. ما رحلت إلا جسداً.. فخلفك أبناء بررة، وزوجة وفية، ومحبون مخلصون سيوفون ذكراك ما حييوا.. ما رحلت إلا جسدا، وستبقى صورتك وابتسامتك في جمعات الخميس والجمعة وأنت تداعب الأطفال والخدم، ستبقى لنا ذكرى نردفها بالدعاء الصادق لك والأجر لكل ما قدمته لنا من أفضال.. ما رحلت إلا جسداً.. وإلى جنان الخلد يا خالي العزيز.. إلى جنان الخلد يا بوعبدالعزيز... عن محبيك من الأهل مريم أحمد باقي