في الشريعة الإسلامية رأى علماء المقاصد أن الأصل في الأشياء الإباحة، كما يقول ذلك الشاطبي، ويعتبر الشيخ بن بية أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ورد فيه نهي. وحين نأخذ هذه القاعدة ونطبقها على الكثير من مواضع السجال في مجتمعاتنا تهولنا النتيجة. إذ سرعان ما نكتشف أن جل الذي نتناقش حوله من قبيل المباح أو العفو الذي لم يرد فيه نهي. وفي الحديث: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء -رحمة بكم غير نسيان- فلا تسألوا عنها”. فالحياة المعاصرة تحتاج إلى منطقة العفو كما يصفها الشاطبي. مهما حاول بعض المتشددين إلغاء منطقة العفو وإحالة الناس إلى الحرام المطلق في كل سبل الحياة ومعاشها.
يثار جدل في السعودية حول حكم حضور المرأة للملاعب الرياضية. طبعاً حين نبحث عن أثرٍ يحرم هذا الفعل لن نجد حديثاً واحداً يحرم الحضور للملعب أو يجرمه. بل إن دولاً إسلامية في الخليج والعالم العربي لديها ذات الإيمان، ونفس الحب للإسلام يعتبرون حضور المرأة للملاعب من الأمور المحسومة التي لا تستحق النقاش أصلاً. البعض حرّم حضور المرأة خشية الفتنة، مع أن خشية الفتنة لا تحتم علينا منع المرأة من حضور المباراة، بل تلزمنا بالمطالبة بإيجاد قوانين تحميها. وإلا فإن خشية الفتنة لو أطلق كمعيار للتحريم فإن الفتنة قد توجد في الحج والعمرة حيث الازدحام والطواف المشترك والسعي المشترك. فهو معيار خاطئ أصولياً ومنطقياً. الحل الأفضل أن يغلى الخوف بالقوانين الصارمة.
الشيخ صالح السدلان يرى أن تعزل النساء في مكانٍ خاص، وأن يكون لهنّ بوابات خاصة، وهذا رأي ممكن، لكنني لا أحب الفصل القائم على الخوف على المرأة، بل يمكن أن توضع قوانين صارمة ضد التحرش أو المعاكسات، بحيث يخاف الشاب من الاقتراب من المرأة أو التعدي عليها، بل ويرتجف كما يرتجف في أوروبا والولايات المتحدة خوفاً من التحرش والمعاكسات. موقف الشيخين صالح السدلان وعبدالله بن منيع قائم على خشية الفتنة التي ذكرناها، ولو أن كل نشاطٍ ستشارك فيه المرأة وخشي عليها من الفتنة حُرّم لما أمكنها المشاركة في أي فعاليةٍ طوال حياتها.
تعزيز أصل الإباحة في حياتنا اليومية هو انتصار لأصل شرعي. ولو أخذنا حكم الإباحة بسعته وبمساحته الشاسعة لوجدنا أنه حكم شرعي نفس حكم التحريم. لكن مجتمعاتنا توقّر حكم التحريم، وتنسى أن الإباحة هي حكم شرعي، لكنه حكم “عفو”، لعل عشق التحريم هو الذي جعل حكم الإباحة غير معزز في الأذهان، بل إن الكثير من الناس يبحث عن الذي يكثر من استخدام حكم “التحريم” على اعتباره أقرب إلى الورع، وأكثر بعداً عن “تمييع الدين” مع أن الدين ليس صلباً حتى يستوجب التمييع!
خلق الله الإنسان لعمارة الأرض، والعمارة تتطلب منه الحركة الدائمة، والحركة الدائمة تتطلب عفواً، ومساحةً من الإباحة، جرياً على الحديث الذي يرسّخ الإباحة مجال الدنيا كما في صحيح البخاري: “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”. فالإباحة حكم شرعي، وهي رخصة إلهية، فلا ندمرها ونعتدي عليها بتوسيع المحرمات، وتحويل مساحات الحرية المسكوت عنها في الشريعة إلى مناطق محرّمة، وممنوعة.
الأصل في تفاصيل حياتنا، رجالاً ونساءً هي رخصة العفو، ومنحة الإباحة، فلا تجرّوا الهواجس ضد خيارات الإنسان في الحياة لتلغونها، سواء بحضور المرأة للملاعب، أو حضور العزاب إلى “المولات” والأسواق، أو في تحريم معرض الكتاب، أو سواها مما لا علاقة له بالتحريم فحرّم، وجرّم فاعله. والله المستعان.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}