من أول وهلة، تبدو المنامة، باعتبارها عاصمة البحرين، مدينة معذورة، إذا ما استقبلت شوارعها، يوماً بعد يوم، لافتة جديدة تعلن بالخط العريض، أن أبناء البحرين يحبون بلدهم، ويعشقون أرضها.. أقول إن العاصمة البحرينية تبدو معذورة، رغم أني حين أصادف لافتات من هذا النوع، في عاصمة أي بلد، فإنني على الفور أدرك أن هناك مشكلة من نوع ما، وأن أصحاب المشكلة يفكرون في مواجهتها بطرق شتى، من بينها مثل هذه اللافتات التي لا تجدي في شيء، في تقديري، عند لحظة الجد! ذلك أنه بمنطق المخالفة، لا يتصور المرء مواطناً يكره بلده، مهما كانت ظروف هذا المواطن، قاسية.. قد يضيق المواطن ببلده، وقد يتمنى أن يخرج منه إلى حين، وقد يرى أن بلاداً أخرى من حيث مستوى كرامة المواطن فيها، أفضل من أرض وطنه.. وقد.. وقد.. ولكنه أبداً لا يمكن أن يكرهها، ويستحيل أن تقوم علاقة بين مواطنين، وبين بلادهم على أساس من الكراهية.. ولذلك، لا أستسيغ أبداً، أن نغني لبلادنا حباً، أو أن نعلن عن عشقنا لترابها، من خلال لوحات إعلانية في الشوارع.. فالإعلان الحقيقي عن ذلك كله، يكون بالفعل، لا الكلام، وحين تكون الأسبقية للأخير، فهذا معناه أن هناك عجزاً في الفعل! طاف هذا كله في رأسي، عندما كنت على موعد، الأسبوع الماضي، في المنامة، مع لقاء موسع أقيم هناك، من أجل أن يتسلم ملك البلاد، حمد بن عيسى، من رئيس مجلس الشورى، علي صالح الصالح، تقرير اللجنة الوطنية التي كان الملك قد قام بتشكيلها، لتتولى تطبيق الإصلاحات التي كانت لجنة تقصي الحقائق المستقلة، قد اقترحتها في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. أصل الحكاية، كما قد يعرف أغلبنا، أن احتجاجات واسعة كانت المعارضة البحرينية، وخصوصاً جماعة “الوفاق” قد حركتها في شوارع البحرين، خلال فبراير ومارس 2011، وقد بدأت بهتافات ضد مسؤولين كبار، واعتراض على وجوه فساد يراها المعارضون، وانتهت بالدعوة إلى إسقاط النظام، وإقامة الجمهورية الإسلامية! كنت أتابع الأحداث، في حينها، من القاهرة، ولم أكن أتصور أنها كانت بهذا الحجم، ولا بهذه الوطأة على النفوس، إلا حين سمعت ورأيت عن قرب، من أكثر من مواطن بحريني عادي، أنهم جميعاً في تلك الأثناء كانوا يضعون أياديهم على قلوبهم، خشية سقوط الدولة نفسها، فالعاصفة كانت قوية للغاية، ولم تكن تهدد رئيس الوزراء فقط، ولا حتى الملك وحده فقط أيضاً، وإنما كان هناك - كما أحسست، وأنا أسمع من أكثر من طرف من المواطنين أنفسهم - خوف شديد من أن تزول البحرين ذاتها، كدولة، لصالح مطامع إقليمية كان من الواضح أنها امتطت الاحتجاجات، لتحقيق نفوذ سياسي، وهيمنة سياسية لفئة في البلد، دون أخرى! لا أقف -وأنا أكتب هذه السطور- مع فئة دون فئة في البحرين، ولا مع نظام حاكم هناك، وإنما أقف مع البحرين، كدولة، وكشعب، لا لشيء، إلا لأنهما الأبقى. ولا يجوز بالتالي، أن تفرق الحكومة بين مواطن من أفراده، وبين مواطن آخر، على أي أساس، من أي نوع.. وربما تكون كلمة “المواطنة” التي جاءت في نص تعديلات دستور 1971 في مصر، قبل الثورة، وجاءت أيضاً في الإعلان الدستوري الذي يحكم الفترة الانتقالية الحالية عندنا، هي، أي المواطنة، أفضل ما يمكن التعبير به عن علاقة المواطنين بأرض بلادهم.. فالمواطنة مشتقة، كما هو واضح، من الوطن، والوطن بدوره يجب أن يتسع لجميع أبنائه، دون استثناء، ودون تفرقة بينهم، على أي مستوى.. وعندما يحدث هذا، فإن أي محاولات خارجية للتدخل، لن تجد أرضاً خصبة تنمو فيها، وسوف تكون “المواطنة” حين تتحقق، وحين يتجسد جوهرها ومضمونها، وليس مجرد شكلها وظاهرها، هي الحصن أمام محاولات لا تتوقف في اتجاه شق الصف في كل بلد عربي. أعود لأقول، إن ما لفت انتباهي، وأنا أتصفح أوراقاً عما جرى في البحرين، في تلك الأيام العاصفة، أن رد فعل السلطة الحاكمة، كان يتسم بشيئين أساسيين، أولهما السرعة في التحرك، وثانيهما الاستيعاب السريع لخطورة الموقف، وهو ما غاب -مثلاً- عن الرئيس السابق حسني مبارك، عندما تعامل مع بدايات ثورة “25 يناير”.. كانت سرعة رد الفعل، في البحرين، قد تمثلت في ظهور الملك بنفسه على شاشة التلفزيون، والمبادرة بتقديم العزاء لأهل أول قتيل سقط في أول يوم من الأحداث، ثم اعتذار وزير الداخلية، بعد عزاء الملك، ولو أنت قارنت بين هذا السلوك، من جانب الملك والوزير، وبين ما جاء في أول خطاب ألقاه الرئيس السابق مبارك، يوم 28 يناير 2011، فسوف تكتشف أن الخطاب خلا وقتها من أي عزاء لأهالي ضحايا كثيرين كانوا قد سقطوا، فضلاً عن أن يكون وزير الداخلية قد اعتذر طبعاً! وكان الشيء الثاني، الذي اتسم به رد الفعل، من جانب سلطة البحرين الحاكمة، أنها شكلت لجنة مستقلة تحقق فيما جرى، بشفافية، ووضوح، وتقترح حلولاً، وقد كان وجود الدكتور شريف بسيوني، العالم المصري الكبير، وأستاذ القانون الدولي الشهير، المقيم في الولايات المتحدة، على رأس اللجنة، كفيلاً بأن توصف، كلجنة، بأنها مستقلة حقاً، أو على الأقل يتوافر لها الحد الأدنى من الاستقلالية. وعندما انتهى الدكتور بسيوني من تقريره الذي استغرق شهوراً كانت الحكومة البحرينية على موعد آخر، مع لجنة أخرى، هي اللجنة الوطنية التي أصبح عليها أن تنفذ ما أوصت به لجنة الدكتور بسيوني، وهو ما قرأناه مكتوباً في تقرير رئيس مجلس الشورى، للملك، وقبل الملك، للرأي العام، صباح الثلاثاء الماضي. وبطبيعة الحال، فليس من الممكن أن يقال، إن الأوضاع هناك على أحسن ما يرام.. هذا غير صحيح طبعاً.. لا في البحرين، ولا في أي بلد عربي.. ولكن ما يمكن أن يقال، في هذا المقام، هو أننا أمام سلطة حاكمة استوعبت الخطر سريعاً، واستطاعت بجدية تحسد عليها، أن تبدأ إصلاحاً يمكن أن يطول به الطريق، ولكن العبرة هنا أنه بدأ، وأن هناك خطوات عملية اقترحتها لجنة الدكتور بسيوني وتحققت بالفعل على الأرض لصالح المواطن البحريني عموماً، وما دون ذلك من إصلاحات لم تتحقق بعد، فإن للمعارضة البحرينية أن تتمسك به، وأن تصمم عليه، في إطار من “المواطنة” التي لا تسمح بطبيعتها لمواطن بأن يشكك في ولاء أو انتماء مواطن آخر، تجاه أرض تضم الاثنين معاً. الحاكم العربي نفترض أنه يعمل لدى المواطن، وليس العكس، وعندما يدرك الحاكم هذه المعادلة معتدلة هكذا، لا مقلوبة، فإنه يتقي شروراً بلا حصر! ^ عن «الشرق الأوسط»
970x90
{{ article.article_title }}
970x90