^ قبل أيام جاءتني ابنتي الصغيرة ذات الأعوام العشرة، تهمس في أذني تريد مبلغاً كبيراً من المال، فقلت لها من أجل ماذا؟ قالت سأشتري هدية لأمي بمناسبة عيد الأم. لم تكتف صغيرتي بهذا الطلب، بل طالبتْني أن أصاحبها في رحلة التسوق وأختيار الهدية أيضاً، فما كان مني إلا أن أخذتها حيث شاءت واشترت ما تشاء لأمها. كلنا يعلم أنه جرى تغيير مسمى عيد الأم مؤخراً، إلى عيد الأسرة، وذلك لأسباب إنسانية يطول ذكرها، ومن جهة أخرى، من أجل أن يأخذ (الأب) موضعه المناسب بين أفراد الأسرة. لم أُلق عَتَباً على ابنتي الصغيرة على هذه التفاصيل، حين نست والدها في عيد الأسرة مقابل ذكرها لأمها، لأنني متيقن أن الأم هي كل شيء، ولو لم تُفَعِّل ابنتي عاطفتها الإنسانية السوية، في ابتدائها تقديم أمها عَلَيَّ، لعاتبتها وقلتُ لها كما قال الرسول الكريم (أمك ثم أمك ثم أُمك). إن أرقى الحملات التي أُعْجِبْتُ بها طيلة دخولي عالم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي من طرف هذا الجيل الخامل مجتمعياً وعاطفياً، هي الرسائل والنصوص التي ملأت أركان أجهزتنا بِعِيْدِ الأم في هذا العام تحديداً، فكان لتلك الحركات الراقية من أبنائنا الأعزاء صدىً عملاقاً في النفوس، بل لأول مرَّة أكتشف أن صغارنا وشبابنا نجحوا في استثمار التكنولوجيا الخرساء في صالح المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة حين انتصروا لها. إن مقام الأم ليس يعلوه أي مقام آخر إلا مقام العبودية لله تعالى، ومن ثم تأتي بعده مباشرة طاعة الوالدين، بل وجدنا أن القرآن الكريم قَرَنَ الطاعتين معاً في قوله عز وجل (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا). إن الحديث عن الأم، هو حديث عن الروح والأخلاق والصبر والإنسانية والنُّبل والتضحيات والكرامة والعبادة، هو حديث عن السمو والطُّهْر والنقاء والجنة التي وضعت رغم مقامها السامي تحت قدميها الطاهرتين. مهما كتبنا في حق الأم فإننا لن نوفي حقها، وسيظل يلبسنا التقصير والقصور في أن نصف معشار ألم المخاض عند ولادتها لنا، وسنظل نحبو تحت نعليها رجاء أن تعذرنا على تقصيرنا معها، وسنرفع أكفنا لها بالدعاء بالغدو والآصال. ليس هنالك من وصف لحق الأم ومقامها، أعظم وأرقى مما وصفه الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام في رسالة الحقوق حين قال (فحقّ أُمِّك أن تعلم أنَّها حملتك حيث لا يحمل أحدٌ أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يُطْعِم أحدٌ أحداً، وأنَّها وَقَتْكَ بسمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها وبشرها وجميع جوارحها، مستبشرة بذلك فرحةً موبلة (كثيرة عطاياها)، محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمِّها، حتى دفعتها عنك يد القدرة وأخرجتك إلى الأرض فَرَضِيَتْ أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمأ، وتظللك وتضحى، وتنعمك ببؤسها، وتلذذك بالنوم بأَرقهَا، وكان بطنها لك وعاء، وَحِجْرها لك حواء، وثديها لك سقاء، ونفسها لك وقاء، تباشر حر الدنيا وبردها لك دونك، فتشكرها على قدرِ ذلك ولا تقدر عليه إلاّ بعون الله وتوفيقه). ليس بعد هذا الكلام كلام، وليس بعد هذا المقام مقام، وستظل الأم هي الأسرة كلها، كما ستبقى عيدها وجنتها وخلودها. اللهم احفظ أمهاتنا الأحياء، وارحم أمهاتنا الخالدات بجوارك، واعذريني أمي العزيزة، فإن كل كلمة كتبتها هنا، لن توفيك حقك ولن تساوي ليلة من ليالي أَلَمكِ المُقَدَّس.