كتب ـ علي الشرقاوي:
قرض الشعر وهو دون العاشرة، وأصدر خلال مسيرته الأدبية الحافلة العديد من الدواوين والمسرحيات الشعرية، كانت بمجملها تدور في فلك التراث الإسلامي والشخصيات التاريخية الخالدة.
الشاعر عبدالرحمن المعاودة، سليل أسرة محرقية عريقة، مدح حكام البحرين السابقين ورثاهم بقصائده، ولعل أكثر قصائده رسوخاً في الذاكرة بيت يقول «يشقى بنوها والنعيم لغيرهم.. كأنها والحال عين عذاري».
كان دوماً طموحاً تواقاً للعمل الحر والتخلص من أسر الوظيفة، تنقل من مجال عمل لآخر حتى استقال أخيراً وأنشأ مدرسة الإصلاح الأهلية، ومنها قدم أجمل مسرحياته الشعرية.
شاعر الملمات
قبل أكثر من عام احتفت البحرين بشخصية من شخصياتها المهمة التي أثرت بتجربتها الشعرية على العديد من الأجيال، المعاودة شاعر الشباب وأول نقاد الشعر في الحركة الأدبية ورائد المسرح الشعري العربي والإسلامي في البحرين، هذه الأرض التي يتوالد فيها الشعر كما تتوالد البهجة في قلوب المحبين.
شاعر بدأ يقرض الشعر وهو دون العاشرة، وأتحف العالم بدواوينه الشعرية المميزة، كديوان المعاودة الصادر عام 1942، و»لسان الحال» 1952.
قبل أكثر من نصف قرن تعرفت على شيء من قصائد الشاعر عبدالرحمن المعاودة، عن طريق الصديق الراحل عبداللطيف راشد الغنيم.
وكانت القصيدة الأولى التي عرفتني بالشاعر، تبين موقفه من الاستعمار البريطاني آنذاك ويقول فيها..
بني أوال أراكم لا تعون ألا تسعون
بالصدق في قول وفي عمل
عاش الأجانب في هذي البلاد
ولم يروا أمامهم وفي القوم من رجل
إذا الطغاة تمادوا في ضلالهم
يقومون بحد السيف والأسل
إني أرى حاضر البحرين ينذرنا
بما تخبئه الأيام من علل
إذا توانيتمُ في سعيكم ذهبت
بلادكم ثم بؤتم بعد بالفشل
سر في المحرق أو سر في المنامة
أو سر في الرفاع تعد بالهم والخبل
والإنجليزية الشـوهاء رطانتنا
لدى الدوائر يا للعار والخجل
وانظر إلى الشركات السود جاثمة
على الصدور وعنها نحن في شغل يا
قوم ما ساد إلا من تسوده
مآثر ألبسته أنفس الحلل
وكلنا يذكر البيت الشعري الذي تحول إلى مثل يردده أهل البحرين «يشقى بنوها والنعيم لغيرهم.. كأنها والحال عين عذاري».
نشأة المعاودة
في عهد المغفور له الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين آنذاك، كانت المحرق العاصمة السياسية للبحرين، على موعد مع إنجاب هذا الشاعر والأديب الفحل الكريم النسب، فأسرته من الأسر البحرينية العريقة وجده لأمه هو الشاعر والسياسي عبدالجليل بن ياسين الشافعي الطبطبائي.
نشأ المعاودة وتفتحت قريحته الشعرية في حواري وأزقة جزيرة اللؤلؤ والعلم والثقافة والوطنية، وعلى شطآنها تمكن من أبجديات لغة الضاد لتتناقل الذاكرة الشعبية أبيات شعره المشحونة حماسة ووطنية وانتماء.
عندما بلغ سن السابعة أدخله والده الكتاتيب، فتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن، وعند افتتاح مدرسة الهداية الخليفية عام 1919 كان المعاودة من أوائل تلاميذها وتأثر ببعض أساتذتها، من أمثال السوري العروبي عثمان الحوراني والنجدي عبدالعزيز العتيقي.
أنهى المعاودة تعليمه في مدرسة الهداية ثم أرسل مع طلبة آخرين بينهم أحمد العمران الذي أصبح لاحقاً وزيراً للمعارف وراشد بن عبدالرحمن الزياني إلى الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1928 ودرس اللغة الإنجليزية.
حظي الشاعر الأديب عبدالرحمن بن قاسم المعاودة بمكانة أدبية مرموقة في الأوساط العلمية والثقافية في الخليج العربة خاصة وفي الدول العربية عامة، نظراً لما عرف عنه من شاعرية مطبوعة وأفكار متجددة وإدراك واسع ونظرة بعيدة ثاقبة يسبر غورها القارئ المتمعن في شعره الثري ذي المعاني الهادفة البناءة.
عاصر المعاودة أربعة من أمراء البحرين هم المغفور له الشيخ عيسى بن علي آل خليفة ورثاه عام 1932، والمغفور له الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة ورثاه عام 1942، والمغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة ورثاه عام 1961، والمغفور له صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير دولة البحرين.
ساهم في تأسيس النادي الأدبي عام 1930 إحياء للنادي الأدبي الأول الذي تأسس بالمحرق عام 1920، ورغم انشغاله في التعليم حيث عمل في مدرسة الحد اشترك المعاودة في نادي الإصلاح.
بين عامي 1949-1954 اندمج المعاودة مع الحركة الثقافية والأدبية، ورافق صديقه الشاعر والأديب والصحافي وتاجر اللؤلؤ عبدالله بن علي الزايد، وساهم معه في تأسيس جريدة البحرين وساعده في إنشاء مطبعة البحرين ثم تولى إدارتها بعد أن اشتراها من ورثة الزايد.
وتميز المعاودة بمشاركته في الحركة الوطنية فوقف في جميع المناسبات يقدم قصائده الوطنية النابضة بحب الوطن ونقد الاستعمار والتخلف.
ويعد المعاودة من أبرز شعراء البحرين والخليج في فترة الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، وارتبطت قصائده بالمناسبات والأحداث القومية.
رائد المسرحية الشعرية
يتميز عبدالرحمن المعاودة بتجربة رائدة في كتابة المسرحية الشعرية، ويعتبر من أبرز وأكثر شعراء البحرين المعاصرين اهتماماً بهذا الفن، وقدم أعماله المسرحية من خلال مدرسته الأهلية ونادي الإصلاح ونادي البحرين.
وتدور مسرحياته حول التاريخ العربي والإسلامي فاستنبط منه أحداثاً وموضوعات حية، ومن هذه الأعمال مسرحية «عبدالرحمن الداخل» و»هارون الرشيد» و»شارلمان» و»سيف الدولة الحمداني» و»المعتصم بالله» و»جبلة بن الأيهم» و»العلاء بن الحضرمي» أو دخول البحرين في الإسلام و»يوم ذي قار» و»أبوعبدالله الصغير» و»سقوط بغداد».
وكان المعاودة يكتب هذه المسرحيات الشعرية لتلاميذه، ويخرج هذه الأعمال ويدير إنتاجها، وعرض بعض مسرحياته على مسرح سينما البحرين وحضرها جمهور كبير، كما حضر هذه الأعمال المغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين الأسبق وحشد من الوجهاء والأعيان.
وله عدة دواوين منها ديوان «المعاودة» 1942 و»لسان الحال» 1952م و»دوحة البلابل» بجزئيه 1960 و»القطريات» جزأين 1964، وصدر له «قصائد العرش» وهو كتيب صغير الحجم صدر في ثلاثينات القرن العشرين، وتضمن قصائد في مدح المغفور له صاحب السمو الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة حاكم البحرين الأسبق.
أدخل عبدالرحمن المعاودة بعض الإصلاحات على المقررات الدراسية وخاصة التاريخ الإسلامي واللغة العربية والحساب والتربية الوطنية، وأسس المعاودة مدرسة أطلق عليها مدرسة الإصلاح الأهلية عام 1935، وكانت في أحد مباني عائلة بن مطر القريبة من سوق المحرق ثم تركها وأسس مدرسة الإرشاد الأهلية في الخمسينات.
كرم المعاودة في حياته من قبل صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البلاد الراحل عام 1994 كأحد رواد التعليم في البحرين مع الشاعر إبراهيم العريض، وكرمه نادي المحرق الرياضي عام 1986 في الاحتفال الكبير بمقر النادي في عراد تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء كأحد رواد مدينة المحرق.
كتب عن تجربة المعاودة الشعرية والمسرحية عدد كبير من الأدباء والمؤرخين أمثال مبارك راشد الخاطر والشاعر العماني عبدالله الطائي والشاعر إبراهيم العريض ود.علوي الهاشمي والصحافي عبدالله بن علي الزايد ود.إبراهيم عبدالله غلوم ود.عبدالله آل مبارك من المملكة العربية السعودية وعبدالله شباط وأحمد المناعي.
يقول د.إبراهيم غلوم في كتابه «المرجعية والانزياح» وهو دراسة بدايات النقد الأدبي في البحرين والخليج وتوثيق النصوص النقدية حول شعر عبدالرحمن المعاودة، إن المعاودة بدأ تجربته الشعرية مندمجاً مع الواقع، ينظر إليه برؤية نقدية حادة، ويتراءى له حلم التغيير خلال الرؤية متجسداً في مثال لم يتحقق إلا في الماضي «أمجاد العروبة والإسلام»، ومن أجل ذلك ارتهنت تجربته الشعرية بثلاثة عناصر تشد الواقع والماضي بحبال قوية الأول هو مرجعية الخطاب الثقافي العربي تاريخاً وشعراً، والثاني هو الموقف النقدي من الواقع، والثالث هو المثير النفسي الذي يجسد انزياح الماضي على الحاضر، ويكون مشاهد الصدام الحاد بين المعاودة ومعضلات الواقع.
ويتمثل هذا المثير في المناسبات القومية والدينية التي يقف الشاعر خلالها ملتهب الوجدان متيقظ الإحساس، لدرجة اقترنت كتابة مجمل قصائده تقريباً بمناسبة الإسراء والمعراج، المولد النبوي، القضية الفلسطينية والمناسبات المناصرة لها، السنة الهجرية، ومناسبات أخرى متفرقة.
ويواصل غلوم حديثه «دفعت الرؤية السابقة المعاودة للاحتماء بالماضي، كما وثقت صلته بالنمط الكلاسيكي في الشعر وأصبح شاعراً مسكوناً بتمثيل مشاهد التاريخ وحوادثه، ما جعله يكتب سلسلة من المسرحيات الشعرية، لكنه رغم ذلك وجد في الواقع أرضاً يحتمي بها ساعدته كثيراً على إثارة وعيه بتغيير الواقع وإصلاحه وهي الحركة الوطنية في الأربعينات والخمسينات، فقد حمل المعاودة هذه الحركة، وموقفها القوي المنحاز للرابطة القومية، وشارك هيئة الاتحاد الوطني احتفالاتها الوطنية، مسخراً شعره صوتاً معبراً عنها».
«المطوع» عتبة سلم المعرفة
في لقاء أجراه الناقد الكبير أحمد المناعي مع عبدالرحمن المعاودة ونشر في العدد الثالث من مجلة «كلمات» يونيو 1984 يقول المعاودة «ولدت عام 1911 وكان يوم ولادتي أول أيام عيد الفطر، ونشأت نشأة عادية ليس فيها ما يوجب الذكر، وعندما بلغت السابعة أدخلني والدي الكتاب وفيه تعلمت شيئاً من القراءة والكتابة وحفظت القرآن، وحين افتتحت مدرسة الهداية الخليفية كنت من أوائل تلاميذها وبعد أن أنهيت صفوفها أرسلت في بعثة دراسية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1928».
ويضيف «قضينا هناك سنتين قي دراسة اللغة الإنجليزية لتأهيلنا لدراسة المرحلة الثانوية، حيث كانت الدراسة فيها تجري باللغة الإنجليزية».
ويتابع المعاودة للمناعي عن مرحلة ما بعد الدراسة في الجامعة الأمريكية «عينت بادئ الأمر مدرساً في مدرسة الحد، وأدخلت في الحال الإصلاحات على المنهج والمقررات الدراسية، فصرت أعلم التلاميذ التاريخ الإسلامي الصحيح وأعطي الطلبة مقررات رفيعة المستوى في الحساب واللغة العربية والتربية الوطنية، ولم يستقر بي الحال ففوجئت بالأمر يتكشف ويرفع إلى وزير المعارف الذي طلب مني العدول عما أفعل، ولكني فضلت الاستقالة على العمل في التعليم، ولم يمض لي فيه سوى شهر واحد، عرض علي بعدها العمل في دوائر حكومية أخرى ولكني رفضت».
ويقول الصحافي عبدالله الزائد في مقدمة لديوان المعاودة، إن المعاودة بعد رجوعه من بيروت تقلب في عدة وظائف إلا أن نفسه كانت طماحة تتوق إلى العمل الحر والتخلص من قيود الوظيفة فاستقال من مركزه وأنشأ مدرسة الإصلاح الأهلية.
ويلفت الراحل مكي محمد سرحان في كتابه عن عبدالرحمن المعاودة إلى «كانت مدرسة الإصلاح الأهلية وقتئذ معرضة لتدخل الإنجليز في نشاطها ومناهجها، وكانت موبوءة في ذلك العصر بالمكائد التي كان ينسج شباكها الطامعون في إغلاقها، وكان ينظر إلى هؤلاء نظرة فيها الكثير من الازدراء والسخرية، فيما ينظر إلى الحاكم والشيوخ والأعيان نظرة طيبة فيها الكثير من الولاء والتقدير».
قال المعاودة بهذا الشأن «لم يكن هناك تدخل مباشر في نشاطات المدرسة ومناهجها، ولكن عدم الرضا واضح لدى المستشار الإنجليزي، فبينما يلبي الحاكم والشيوخ وأعيان البلاد دعوة حضور الحفلات المسرحية، ويقدمون لها التشجيع والمساعدة، يعتذر هو عن الحضور مدعياً انشغاله بأمور أخرى، والاعتذار يتكرر دائماً بما يدل على موقفه السلبي، كما إنه لا يستطيع الحضور لأنه سيسمع ويشاهد ما يغيضه من إشادة بأمجاد العرب والمسلمين وحث الحاضرين على بعثها ودعوتهم إلى النهوض من رقاد الكسل والتخلف».
رحلة المسرح البحريني
ومع بداية التعليم ووصول أفواج المعلمين العرب، الذين تمكنوا من نقل التجربة المسرحية من الشام ومصر، تأسس في البحرين أول نواة مسرحية في مدرسة الهداية نفسها.
وفي عام 1925 تم تقديم أول مسرحية في البحرين، وهي مسرحية «القاضي بأمر الله»، وفي عام 1928 قدمت المدرسة نفسها مسرحية «امرؤ القيس»، تبعتها «نعال أبوقاسم الطنبوري»، كما تم تقديم مسرحية «ثعلبة»، وفي عام 1932 قدمت مسرحية «داحس والغبراء».
وفي عام 1931 تم تقديم مسرحية «سيف الدولة بن حمدان» من تأليف وإخراج الشاعر عبدالرحمن المعاودة، على مسرح مدرسة الإصلاح الأهلية، وتبعها عرض «عبدالرحمن الداخل» 1936 من تأليف وإخراج المعاودة أيضاً.
وبدأ المسرح في البحرين يتواصل مع التراث الأدبي العالمي، فقدم عام 1940 مسرحية «لقيط الصحراء» في مدرسة الهداية، كما تم تقديم مسرحية «مجنون ليلى» لأحمد شوقي على مسرح نادي البحرين، وكذلك مسرحية «مصرع كليوباترا» ثم «قيس ولبنى» للشاعر عزيز أباظة.
وتوجت التجربة المسرحية في الأربعينات، بإحلال الأندية مكان المدارس كحاضن للمسرح في البحرين، وبالاستفادة من العطاء الأدبي العالمي، بعد أن كان المسرح يعيد إنتاج قصص من التاريخ الإسلامي، وأخذ يميل بعد ذلك إلى النصوص الشعرية ويستفيد من مسرحيات عالمية لشكسبير وأحمد شوقي، وعزيز أباظة، وتوفيق الحكيم، وإبراهيم العريض، وعبدالرحمن المعاودة.
وظهرت في عام 1955 «الفرقة التمثيلية المتنقلة»، وهي مجموعة من الشباب قدموا أول عرض مسرحي في أبريل 1955 على مسرح نادي العروبة، وكان العرض يتألف من ثلاث مسرحيات «الإنسانية المشردة» تأليف وإخراج محمد صالح عبدالرزاق و»صرخة لاجئ» و»الضمير» من تأليف وإخراج صلاح المدني.
ومن قصيدته «ما وراء المادة» ننهل..
يا هناء القلب يا أقصى مرام
في ربيع العمر في ظل الشباب
اسقني من ريقك العذب شراب
أنا قد ذبت فدع عنك العتاب
واجعل النار على قلبي سلام
يا حبيبي إنني أشكو إليك
أدمعاً فاضت من الوجد عليك
توفي عبدالرحمن المعاودة عام 1996 وأقام نادي المحرق الرياضي حفل تأبين له حضره العديد من المهتمين بقطاع الثقافة والمسرح في البحرين وأصدقاء الشاعر وألقيت كلمات رثاء في مناقب شاعر البحرين الكبير.