يوم 16 يونيو ، تمثل الساعات الأربع والعشرون التي ضغط فيها جيمس جويس أحداث روايته الحداثوية الأشهر في القرن العشرين «يوليسيس». ويعرض عبدالاله مجيد هذا المقال على موقع إيلاف، موضحاً أن الرواية التي تقع بطبعتها الأنكليزية في 700 تسترسل بالتهويمات الأدبية وغياب الحبكة التقليدية وندرة الفواصل والنقاط.
يقول نقاد إن الرواية مازالت عملاً، عدد من يدعون قراءته يزيد بكثير على من قرؤوه فعلاً وأقل من هؤلاء الأخيرين من قرؤوا الرواية وفهموها. وإلى هذه الفئة الأخيرة ينتمي الرسام الفرنسي هنري ماتيس الذي طُلب منه أن يساهم مقابل 5000 دولار برسوم تستوحي «يوليسيس» لنشرها في طبعة فاخرة من الرواية العام 1934. واكتشف ماتيس أن طلاسم نثر جويس عصية على الفك كما وجد من استغراق شخوص الرواية في أحلام اليقظة خلال تجوال بطله بلوم حول دبلن. لكن ماتيس كان في حاجة ماسة إلى مبلغ المكافأة، فوضع الرواية جانباً وأنجز مجموعة من الرسوم التي تستوحي أوديسا هوميروس،، بدلاً من يوليسيس جويس، والتي استخدمها جويس إطاراً لبناء روايته.
صورة إيف أرنولد
غير أن أشهر عمل من أعمال الفن البصري التي تستوحي رواية يوليسيس هو صورة إيف أرنولد العام 1955 للممثلة الراحلة مارلين مونرو وهي تقرأ نسخة من الرواية. وتمكنت أشهر قنبلة جنسية في القرن العشرين من قراءة أشهر قنبلة أدبية في القرن حتى آخر صفحة. وكان يُراد بذلك إيصال رسالة تقول أولاً إنها ليست شقراء ضحلة وثانياً أن «يوليسيس» رواية ليست للمختصين والأكاديميين فقط، بل كتاب لكل من يقرأ. لكن شحة الأعمال الفنية التي استوحت الرواية منذ صدورها قبل 81 عاماً تبين أن يوليسيس كان تحدياً كبيراً لصبر الفنانين. ويرى نقاد أن السبب قد يكمن في أن الفنانين، مثل ماتيس، وجدوا من الصعب اكتناه الرواية ناهيكم عن سبر غورها واكتشاف معانيها. وكان من المفهوم أن يعزفوا عنها لما تتسم به من تعقيد أسلوبي وإحالات متعددة المستويات. لكن جويس نفسه لم يكن شغوفاً بالفنون البصرية. وبخلاف بروست الذي طرز «البحث عن الزمن المفقود» بإشارات إلى رسامين ولوحات فنية فإن يوليسيس لا تذكر إلا صورة واحدة هي «استحمام الحورية» المعلقة في مخدع الزوجية في بيت بلوم. وكتب جويس، الذي كان نفسه صاحب صوت شجي، روايته بمفردات موسيقية أكثر منها تشكيلية حتى أن الكتاب يعتبر بحق موسوعة للغناء الفولكلوري الأيرلندي، على حد وصف الناقد الفني لصحيفة الديلي تلغراف الستير سمارت مشيراً إلى أن هذا يتبدى بصفة خاصة في الفصل الحادي عشر، ما يزيد الطين بلة أن جويس لا يكتب كلمة واحد في وصف بطله ليوبولد بلوم تعين الفنان على تخيل شكله وهيئته.
ليس تفاعلاً تمثيلياً
نتيجة لذلك اختار العديد من الفنانين الابتعاد عن التفاعل مع الرواية تفاعلاً تمثيلياً وملؤوا اللوحات والجدران برموز لغوية مشتقة من نثر جويس، كما فعل الفنان جوزيف كوسوت بعمله الجداري الذي يستخدم فيه أضواء النيون «يوليسيس: 18 بلاطة» وكذلك جدارية لورنس واينر. والشيء نفسه فعله الانطباعي التجريدي الأميركي روبرت موذرويل بعمله «مجموعة يوليسيس» المؤلفة من 40 نقشاً. ويقف كل نقش على حافة الخط دون أن يرتبط ارتباطاً واضحاً بأي واقعة في ذلك اليوم الحافل من حياة بلوم.
ولا يعني هذا أن رواية يوليسيس تخلو من المشاهد التي يمكن أن يستلهمها الفنان مثل المقاطع التي استفزت أخلاق مجتمع العشرينات وأدت إلى منع الرواية بتهمة البذاءة والمجون في كثير من العالم الناطق بالانكليزية إبان ذلك العقد، ومن ذلك على سبيل المثال تخيلات بلوم التي يرى فيها نفسه مهاناً على يد قوادة الماخور السحاقية بيلا كوهين أو المشهد الختامي الذي تستمني فيه مولي زوجة بلوم المكبوتة.
العلاقة بالتكعيبية
ولعل من الأفضل تشكيلياً النظر إلى يوليسيس بالارتباط مع حركة فنية هي التكعيبية وليس بعمل فنان منفرد. وكان براك وبيكاسو وجويس ولدوا في غضون أشهر من أحدهم الآخر وأن دراسات كاملة أُعدت عن العلاقة بين عمل الكاتب الأيرلندي وأعمال الرسامين. وعلى غرار اللوحة التكعيبية، فإن مشاهد يوليسيس تُفكك ويُعاد بناؤها في عقدة من الخبرات والمنظورات لفهم الواقع عموماً على نحو أفضل. عدا ذلك يبقى ريتشارد هاملتون رائد فن البوب أفضل تشكيلي منفرد ترجم يوليسيس فنياً. وكان هاملتون قرأ الرواية وسُحر بها خلال أدائه الخدمة العسكرية أواخر الأربعينات وظل يطمح في رسم فصول يوليسيس الثمانية عشر. وعندما توفي هاملتون عام 2011 انجز ثمانية رسوم مطبوعة اهمها «في بيت هورن» التي تصور زيارة بلوم لمستشفى ولادة حيث يصور نثر جويس ميلاد اللغة الانكليزية وتطورها كما يلد الطفل ويرى النور ثم يبدأ مرحلة النمو. وأبى هاملتون إلا أن يضاهي جويس في مخيلته فصور في رسمته المحفورة مجموعة جالسة في غرفة الانتظار في المستشفى بينها شكل مصري قديم وتمثال جزيرة ايستر وعذراء بيليني وبورتريه رامبراندت بفرشاته، أي أنه رد على تصوير جويس لتطور اللغة الانكليزية بعمل يصور تطور الفن البصري. وقال هاملتون إن كثيراً من أعماله تأثرت بعبقرية جويس الذي كان يعرف كيف ينسج أساليب مختلفة في سجادة أدبية زاهية. لذا يمكن القول إن رواية يوليسيس منفتحة على كل الحركات الفنية سواء كانت فن البوب أو التجريد أو التكعيب أو المدرسة المفهومية، وهي كلها شهادات على الثراء الخالص لنص جويس.