كتب - محرر الشؤون السياسية:
دافعت “هيومن رايتس ووتش” عن المتهم الأوروبي ثاينس القس البلجيكي التابع للحملة التبشيرية الأوروبية المسماة “الأب وايت” وحاولت تبرئته في قضايا إبادة جماعية رغم امتلاكها أدلة لتورطه وأبرزت قضيته في تقريرين لتصوره على أنه بريء وناشط في مجال حقوق الإنسان وصحافي يسقط ضحية السلطات الرواندية.
وسرد ريتشارد جونسون في كتابه “مهزلة منظمة هيومن رايتس ووتش في رواندا” الذي يحكي فيه تجربته في رواندا الصادر مؤخراً صور تحيز المنظمة في مواقفها وقللت في تقديرتها عدد الجناة المشاركين في إبادة الشعب الرواندي وبين أن “هيومن رايتس” لم تعط أي أهمية لمسألة الإبادة الجماعية.
وبين كيف اختارت المنظمة عينة بسيطة من مليوني حالة لاتمثل ما يحدث في رواندا وأن توصيات “هيومن رايتس” للسلطات الرواندية تصب في صالح المتهمين بالإبادة الجماعية.
التقديرات
الخاطئة المقصودة
وقال ريتشارد جونسون بالنسبة للجناة “تعترف منظمة “هيومن رايتس ووتش” أن المشاركة في الإبادة الجماعية كانت عالية بين “الهوتو الروانديين”، ولكنها تلاحظ أن ذلك تمّ غالباً بالإكراه أو من خلال الشرعية التي أعطتها الحكومات الغربية للنظام الرواندي أثناء الإبادة الجماعية أو فقط بطريقة غير مباشرة وقدرت المنظمة في 1999 أن هناك عشرات الآلاف من القتلة، وهذا تقدير منخفض للغاية وقد تمسكت به المنظمة إلى يومنا هذا ويختلف الباحثون الغربيون مع منظمة هيومان رايتس ووتش إذ يرون أن التقديرات تتراوح مابين 200 ألف إلى 400 ألف من الجناة خاصة إذا تم اعتماد الملف القضائي 2002-2012 في رواندا حول محاكم الإبادة الجماعية المعروفة بالغاكاكا ولم تعترف هيومان رايتس بأن الأدلة التي لديها بوجود “عشرات الآلاف” من الجناة إنما هو جزء صغير من العدد الحقيقي لمرتكبي الإبادة الجماعية في رواندا.
وتطرق المؤلف إلى تكتيك هيومن رايتس للتقليل إلى أدنى حد من وقع مسالة الإبادة الجماعية عبر تضخيم المشاركة في الإبادة الجماعية ويقول تعالج هيومن رايتس قضية العدالة ما بعد فترة الإبادة الجماعية بحصرها في محاكمة عادلة للمتهم دون الالتفات للعدد الإجملي للجناة الواجب محاسبتهم.
وقال تجاهل التقرير استمرار تواجد عدد هائل من المذنبين دون محاكمة وذكر التقرير الذي يحتوي 109 صفحات كلمة “ضحية” مرة واحدة وتجاهل عذاب الضحايا والناجين، والتحديات اليومية المعيشية، فخطاب منظمة هيومان رايتس ووتش وظّف عمدا على ما يبدو ، لا “لرفض” الإبادة الجماعية في حد ذاتها، بل للتقليل من حجمها وأهميتها لتتناسب مع رؤية منظمة هيومان رايتس ووتش و سياستها ما بعد فترة الإبادة الجماعية في رواندا.
وعن التقليل من أهمية المساءلة فيما بعد الإبادة الجماعية يقول :”انحدر مستوى الأهمية التي توليه هيومان رايتس ووتش للمساءلة فيما بين 1999 إلى 2011 من “هام “ الى “غائب” عن التقارير موعزة ذلك لنظام العدالة والعقاب المطبق بشأن الإبادة الجماعية وفي تقرير عام 1999، في قسم “العدالة والمسؤولية” أكدت منظمة هيومان رايتس ووتش أن العدالة الجزائية ضرورية بعد الإبادة الجماعية لعام 1994 دون أن ننسي اللمسة الغريبة في هيومن رايتس ووتش: “يجب أن يكون هناك عدل تجاه من قاموا بالإبادة الجماعية، والاغتيالات السياسية، وغيرها من الانتهاكات لحقوق الإنسان في رواندا في عام 1994. يجب معاقبة المذنبين وصدهم عن إلحاق مزيد الأذى بالآخرين. يجب إطلاق سراح الأبرياء الذين لم يرتكبوا جرما. وبدون عدالة، لا يمكن أن يتحقق السلام في رواندا، ولا في المنطقة المحيطة بها. هذه الحقيقة التي تمّ إقرارها في عام 1994 على نطاق واسع وأصبحت أكثر وضوحاً في السنوات الأربع الموالية: المتمردون، بما في ذلك بعض المسؤولين عن الإبادة الجماعية عام 1994، والجيش الوطني الرواندي يقومون بقتل المدنيين وواصلوا ذلك حتى أصبحوا مقتنعين بأن هذا المسارمكلف غير مجد وأن تحديد المسؤولية الفردية لأفراد قبيلة الهوتو هو السبيل الوحيد للحد من الشعور بالذنب الجماعي لقبيلة الهوتو.
ويقول بالطبع هناك طريقتان أساسيتان لتحقيق العدالة التي تتجاهلهما منظمة هيومان رايتس ووتش: كمبادرة احترام ضحايا الإبادة الجماعية، و كحركة نبيلة لعزاء الباقين على قيد الحياة إذ في التقرير ظهر الناجون مرتين بصورة مقتضبة، الأولى تسليط الضوء على أهمية عدم إلقاء ذنب جماعي علي الهوتو، والثاني أن الروانديين الذين عانوا كثيراً يعترفون بالحاجة للإنصاف والنزاهة في الحكم على الجناة .ويضيف لو أرادت هيومن رايتس ووتش، إيجاد أدلة لتمكنت لوجود أدلة وفيرة.
التمسك بالمساءلة
ومن الملاحظ أن “هيومن رايتس” ترى من الضروري إيلاء نفس القدر من الأهمية للجرائم الأخف من الإبادة الجماعية لتحقيق عدالة مساوية أخلاقياً بين قتل المدنيين على أيدي المتمردين، بما في ذلك بعض المسؤولين عن الإبادة الجماعية في عام 1994 وقتلهم على يد الجيش الوطني الرواندي الذي كان يقاوم التمرد.
ويواصل في عام 2002، كان كبار المنظرين لمنظمة هيومن رايتس في رواندا في ذلك الوقت كينيث روث وأليسون دي فورغيس نشرا مقالة قصيرة تسمى “العدالة أو العلاج” واستخدما فيها الاثنان عبارات رنّانة حول أهمية العدالة والعقاب: “.. انه زمن الفظائع يجعل من سياسة المحاكمات والعقوبة أمر أساسي ولدحض اقتراح مقدم من هيلينا كوبان للحد من العدالة الجزائية لفائدة المصالحة والعلاج فيما يتعلق بمرتكبي الإبادة الجماعية عام 1994، أكّد كينيث روث أليسون دي فورغيس أن “القتلة ليسوا آخر الضحايا التعساء في سلسلة الإبادة الجماعية وأنهم قاموا كالممثلين بدورهم عن قصد وبطريقة غير أخلاقية. يجب التعامل معهم كأطفال يرفضون ارتداء معاطف ويصابون بالزكام رغم علمهم انه فعلهم خاطئ وخطير وفي الحالة الرواندية، فان الاقتراح خاطئ لأنه يضر بمصلحة الضحايا و خطيرة نظراً لأنه يعطي إشارات أمان للذين تسول لهم أنفسهم بارتكاب جرائم جماعية. ان (القتلة) سيخضعون في آخر الأمر إلي جلسات العلاج الجماعية.
واعتبر المؤلف أن ما يثير الدهشة أن هذه الكلمات لم تكن لدعم الجهد في رواندا في الوقت الذي كانت فيه الرغبة كبيرة لإنشاء آلية للعدالة (محاكم “الغاكاكا”) التي ستحاكم المذنبين في الإبادة الجماعية وتحاسب المذنبين بطريقة يكون من شأنها على حد سواء ترسيخ مبدأ العفو وتشجيع المصالحة ولكن هدفهما كان دحض فكرة سترومان للعلاج البديل الذي لم تكن خيارا عالميا (مع العلم أن اقتراح كوبان كان في الواقع أكثر دقة) واللافت للنظر أيضاً أن هذا الطعن كان هو المرة الأخيرة التي تدعو فيها منظمة “هيومن رايتس ووتش” إلى المحاكمات والعقاب لمرتكبي جرائم الإبادة الجماعية في عام 1994 كإجراء أساسي وقبل عام 2004، وفي مقال لاليسون دي فورغيس والعضو السابق لمنظمة هيومن رايتس ووتش تيموثي لونقمان انخفضت بشكل كبير أهمية تحقيق العدالة وأصبحت مجرد المساءلة خطوة هامة في إعادة الأعمار الاجتماعي في رواندا (دون ذكر كلمة ‘السياسي’) وحسب الرجلين، فانّ المحاكمات ليست حلاً سحرياً لأن حكومة رواندا المنتخبة في 2003 كانت تفتقر إلى الشرعية ولأن الحركة الديمقراطية الرواندية قد تم حظرها ولان نظام محاكم “الغاكاكا” كان ينظر في اتجاه واحد مركزا فقط على مسالة الإبادة الجماعية دون النظر في الجرائم الأقل بشاعة التي قامت بها الجبهة الوطنية الرواندية.
التهكم
على «الغاكاكا»
ويقول في تقريرين لاحقين ومطولين بشأن قضايا العدالة في رواندا في 2008 و 2011 لم تعط منظمة هيومان رايتس ووتش أية أهمية لمسألة الإبادة الجماعية سواء بصفة مطلقة أو مشروطة أو أقل من ذلك واكتف التقريران بإلقاء بعض الضوء على تطور تفكير هيومن رايتس ووتش بشأن هذه المسألة من خلال التعليقات التي أدلى بها أليسون ديس فورغيس لسانفورد انجر في فبراير 2009، عندما كان اونغر عميد كلية جوتشير يحاول معرفة ما إذا كانت المهاجرة الرواندية ‘مونياكازي ليوبولد’ التي استأجرها لاجئة أو فارّة من العدالة بسبب جرائم الإبادة الجماعية.
وقالت: ‘إن العديد من الروانديين لم يكونوا واعين بما فعلوه لحظات الهستيريا لأن ما قاموا به كان من أجل البقاء على قيد الحياة”.
تهكمت هيومن رايتس ووتش على محاكم الغاكاكا التي أنشأتها رواندا لمقاضاة المورطين في الإبادة الجماعية لكن المنظمة لم تقدم بديلاً لمحاكم “الغاكاكا”.
في إطار نظام الغاكاكا الساري في رواندا تم انتــخـــــاب 170000 ألفا من الشخصيات المعروفة بالاستقامة من قبل المجتمعات المحلية للعمل كقضاة في 12000 محكمة من محاكم المجتمع التي شارك في أعمالها تقريبا كل الروانديين الكبار كالمتهمين والشهود وحاكمت محاكم الغاكاكا هذه ما يزيد قليلا عن مليون شخص مشتبه بهم في اقتراف ما يقرب من مليوني قضة جنائية مقسمة إلى ثلاث فئات وكلها ذات علاقة بالإبادة الجماعية.
وساهمت هيومن رايتس واتش قليلا أثناء عملها هناك في التقاريرالخارجية حول مجلس الحكماء في اشارة واضحة الى شكوكها حول التعاملات التي تمت بالاشتراك مع نظام العدالة الرواندي في عام 2004 و 2008.
ونلاحظ : إصرار هيومن رايتس على رقم “عشرات الآلاف” من الجناة دون التسليم بحقيقة أن محاكم الغاكاكا قد توصلت الى اصدار احكام ادانة في حق مئات الآلاف من الحالات.
تدعي هيومن رايتس ووتش الدقة في التحاليل بحسب ما روجت له في قسم “المنهجية” بعد أكثر من 2000 يوم من المراقبة التي غطت ما يزيد عن 350 حالة في أقاليم رواندا الأربعة فحين أن العدد المذكور يمثل عينة بسيطة من مجموع مليوني حالة و مع ذلك لم تمط النقاب عن كيفية اختيارها للعينة أوالتركيز عليها.
سواء روت هيومان رايتس القصة كاملة عن الحالات التي اختارتها للانتقاد أم لا، تظل العينة أقل من أن تكون ممثلة لما يحدث في رواندا و في الآن نفسه أكثر بكثير مما يمكن تناوله في هذا التقرير.
التكتم
على أدلة الإدانة
خصت هيومان رايتس ووتش قضية ثاينس ذات الرمزية الكبيرة وهو قس بلجيكي تابع للحملة التبشيرية الأوروبية المسماة “ الأب وايت” اهتماما كبيرا باعتباره المتهم الأوروبي الوحيد الذي يمثل أمام محاكم جاكاكا وأظهرت حرصا شديدا على الدفاع عنه وإبراز قضيته في تقريرين لها مصورة إياه على أنه بريء وناشط في مجال حقوق الإنسان وصحافي يسقط ضحية السلطات الرواندية على خلفيات الاتهام بالارتشاء ولأسباب سياسية أخرى وتتكتم هيومان رايتس ووتش في ذات الوقت على حيازتها لكمية هائلة من الأدلة التي تبين أن ثاينس تربطه علاقات حميمة وفكرية بالعديد من الروانديين الذين لعبوا دوراً كبيراً في عملية الإبادة الجماعية ويناصر قضيتهم قبل وأثناء وبعد حصول المجازر.
- تصب كل “التوصيات العشرين” تقريبا التي تقدمت بها هيومن رايتس الى السلطات الرواندية في صالح المتهمين بالإبادة الجماعية باستثناء توصية واحدة، تلك المتعلقة بالمزيد من المساعدة لضحايا الاغتصاب التي جاءت لتصب في صالح الضحايا وهذا من شأنه أن يعزز الاعتقاد في أن عملية الغاكاكا يشوبها الفساد، الشيء الذي أخفقت عينة هيومن رايتس ووتش الانتقائية للغاية في إثباته، مع كونه أمر غير قابل للتصديق منذ البداية إذ ليس بإمكان أحد أن يقارن حجم المشاركة العالية في الإبادة الجماعية في سنة 1994 بحجم العقوبة التي أوقعها مجلس الحكماء على أقل من 60000 فرد.، لا يزل جلهم في السجون أو يقضي فترات الحكم في خدمة المجتمع حتى الآن وبعد 18 سنة من وقوع الحدث.
- اختارت هيومن رايتس ووتش الحد من مسألة “ceceka،” أي مؤامرة الصمت في أوساط الجناة وأسرهم وأصدقائهم (الذي يفوق عددهم عدد الناجين من الإبادة الجماعية في التلال الرواندية)، في حين تنظر تقييمات مجلس الحكماء الأكثر توازناً إلى المسألة على أنها مشكلة كبيرة.
- تولي هيومن رايتس ووتش اهتماما سطحيا لمسألة رد الحقوق الى أصحابها وتعويض الناجين من الإبادة الجماعية وتكرس على أرض الواقع المزيد من الاهتمام بالناجين الساعين لجني أرباح شخصية على غير وجه حق وعلى حساب حقوق الناجين المحبطين كما أنها لم تحرك ساكنا تجاه قضية مساعدات الأمم المتحدة للناجين التي ظلت محدودة للغاية منذ عام 1994.
- رغم أن المحاكمات الشاملة للأفراد من قبل الغاكاكا كانت الطريقة الوحيدة لتفادي القاء الذنب الجماعي على “الهوتو” - احدى أولويات هيومان رايتس ووتش الرئيسية (انظر أعلاه) - التي اختارت في تقريرها لهذا العام 2011 الإيحاء بأن مجلس الحكماء كرس فكرة “الذنب الجماعي” وتنطلق في ذلك من فكرة أن “التوتسي” وحدهم هم الضحايا و الهوتو وحدهم هم الجناة و تتهم هيومن رايتس ووتش مجلس الحكماء بتعزيز التصنيفات العرقية السائدة مثل “الهوتو” و “مرتكبي الجرائم.” حيث تبدو هذه الحجة مقنعة منطقيا نظرا لأن الإبادة الجماعية نفسها هي التي خلقت مشكلة ما يسمى بالذنب الجماعي التي لا يمكن حلها إلا من خلال المحاكمات الفردية.
- لم يشر نص تقرير المنظمة ( 144 صفحة و 624 حاشية) لا من بعيد ولا من قريب إلى العديد من الدراسات واستطلاعات الرأي الرواندية اتي قيمت محاكمات الغاكاكا، وأثرها و آراء الروانديين المعنيين التي كانت في المجمل أكثر إيجابية من آراء المحاورين التابعين لمنظمة هيومان رايتس ووتش.
- قدمت هيومان رايتس تقريرها المعنون “عدالة المساومة” في إيجاز لم يكن ضمن جدول أعمالها و ذلك في العاصمة كيغالي لما وقف السفير الهولندي في سابقة نادرة تصدر عن دبلوماسي أمام المنظمة معرباً عن خيبة أمله من انحيازية التقرير.