منذ فجر التاريخ والإنسان يبحث عن آليات ووسائل تساعده على التعايش مع الآخر، هذا الآخر الذي صار مختلفاً عنه أما مكانياً أو نوعياً أو عرقياً أو حتى دينياً، وفي مسعاه ذلك مر بالعديد من التجارب السلبية منها والإيجابية، إلا مساعيه تلك دفعت البعض إلى محاولة خلق منهجية عامة يستطيعون من خلالها خلق بيئة ملائمة للتسامح بين بني البشر، منهجية من الممكن من خلالها تدريب المجتمعات على تقبل الآخر مهما كانت درجة الاختلافات والخلافات، وقد أدلى العديد من المفكرين والكتاب بدلوهم في هذه القضية، فبعد أن أكدت الأديان السماوية أهمية هذا المناخ وتلك البيئة المحيطة ظهر مفكرين من أمثال جون لوك وفولتير منذ القرن التاسع عشر، وجاء الإعلان العالمي للمبادئ العامة للتسامح الصادر من منظمة اليونسكو في 16 نوفمبر 1995، مؤكداً على ذلك الحق الإنساني في التسامح كحق جماعي للإنسانية. والذي يقوم على احترام وقبول التنوع لثقافات العالم، وقد أكد الإعلان على أن التسامح يقوم على قيم وثقافة السلام. حيث اعتبر التسامح والتصالح هما دعوة أخلاقية فالإنسان بطبيعته متسامح مع أخيه، فالتعايش المجتمعي يحتم علينا أن نتعايش معا، ويشكل التسامح في حد ذاته شيء أساسي للإنسان وللمجتمع معاً، وقيمة التسامح والتصالح تتجسد في ديمومة الحياة المجتمعية الهادئة والآمنة والمستقرة بعيدا عن التعصب. أما المفكر البريطاني مايكل أنجلو ياكوبوتشي فيرى أن التسامح لا يعني بالضرورة أن نحب الجار بقدر ما يوجب علينا أن نجتهد لاحترامه حتى ولو بالقدر الضئيل. وفي العالم العربي كانت إسهامات عالم الاجتماع الأشهر عبد الرحمن ابن خلدون والذي أشار إلى أن الاجتماع البشري يكمن في تلبية حاجة الإنسان لشيئين هم الأمن والغذاء وهم شيئين متلازمين لا يمكن تحقيقهم إلا من خلال الاجتماع البشري، والتعايش الاجتماعي. فالتعايش يكون بالتعارف مع الآخر والتقارب والاحترام المتبادل وإرساء مبدأ التسامح والتصالح بينهم. فهو الرغبة المشتركة للتعايش والتي تعتمد على التصرفات والسلوكيات التي تسعى لإصلاح العلاقات المجتمعية بين الأفراد، وترك التنافر وإثارة الفتن والأحقاد. ودفن صراعات الماضي. ويمكن تحقيق التسامح عن طريق الآليات التالية:
• تكريس وحدة النسيج الوطني عن طريق الحوار الفكري الهادف بين مكونات المجتمع المختلفة.
•الإسهام في صياغة الخطاب السياسي والإعلامي الصحيح المبني على العقلانية والمرونة من خلال الحوار البناء والهادف.
•ترسيخ مفهوم الحوار وسلوكياته في المجتمع ليصبح أسلوباً للحياة ومنهجاً للتعامل مع مختلف القضايا.
• تعزيز قنوات الاتصال والحوار الفكري مع المؤسسات والأفراد في الداخل والخارج.
• تكريس احترام الحريات.
وعلى الصعيد الدولي فقد أصبح التسامح والتصالح بمثابة اختيار حضاري يستوجبه العمل على تلافي الحروب، ونشر ألوية السلم في ربوع العالم، وتحقيق التفاهم والتعايش والتعاون بين الدول والشعوب، وحماية كرامة الإنسان، واحترام حقوقه وحرياته الأساسية. ولإرساء التسامح والتصالح على الصعيد الدولي، لابد من ضمان التكافؤ بين الدول، والحد من كل نزعة هيمنة كل دولة على أخرى.
وفي النهاية فانه إذا أردنا لهذا العالم أن يعيش في جو من التسامح والتعايش السلمي فيجب أن يكون ذلك من خلال مرجعية قانونية دولية يجسدها الإعلان العالمي للمبادئ العامة للتسامح الصادر عن منظمة اليونسكو في 16 نوفمبر عام 1995، ويكون ذلك بتجسيد الممارسات والسلوكيات العملية على أرض الواقع و تأصيل قيمة لهذه الثقافة في نفوس الصغار وقلوبهم، وتكوين المواقف القائمة علي الانفتاح وإصغاء البعض للبعض والتضامن والذي ينبغي أن يكون جزءاً من المناهج الدراسية في المدارس والجامعات، وأيضاً عن طريق التعليم غير النظامي، وفي المنزل وفي مواقع العمل. كما إنه بإمكان وسائل الإعلام والاتصال أن تضطلع بدور بناء في تيسير التحاور والنقاش بصورة حرة ومفتوحة، وفي نشر قيم التسامح وإبراز مخاطر اللامبالاة تجاه ظهور الجماعات والأيديولوجيات غير المتسامحة.