بقلم د.مصطفى السيد

كما هي العادة في هذه الفترة من كل عام تلقيت اتصالاًَ كريماً من مكتب الوجيه عبدالله أحمد ناس لاستلام تبرعٍ مالي لصالح الأيتام البحرينيين، وكعادته رحمه الله وبحسب ما يوصيني دائماً أن يكون ذلك بعيداً عن الإعلام حتى عندما كنت أود أن أنشر ذلك بين الناس لكي يقتدي به الآخرون كان يرفض ذلك ويقول من يريد أن يفعل الخير فليس بحاجة أن يقتدي بي. كان هذا ديدنه ومنطقه في فعل الخير، وكنت أقدر ذلك فيه ولا عجب! فمن يعرف أبا سمير جيداً يعرف معدنه وطيب خصاله وأخلاقه.
بعد ذلك التبرع السخي بساعات قليلة تلقيت اتصالاً آخر يعزيني بوفاة عبدالله أحمد ناس رحمه الله، كانت الصدمة كبيرة جداً بالنسبة لي. لم أكن أتخيل أن تنتهي حياته بعد ساعات قليله من القيام بأنبل عمل يقوم به الإنسان ألا وهو خدمة الأيتام في هذا الشهر الفضيل. في لحظات قليلة مر بخاطري شريط طويل من الذكريات الجميلة والمواقف الإنسانية العظيمة مع إنسان أحب وطنه وعشق ترابه، وأحب الناس وخدمهم وأعطى دون أن ينتظر الشكر أو المكافأة.
كان رحمه الله مثالاً للرجل العصامي الذي بنى نفسه بنفسه. بدأ من الصفر حتى وصل إلى القمة بجهده وعطائه وإخلاصه، وعندما نجح لم يستأثر بهذا النجاح له وحده وإنما عمم الفائدة والنجاح على جميع الناس فأسس أول شركة عائلية مساهمة، ليكون للجميع نصيب في هذا النجاح لأنه آمن بأن النجاح لا يمكن أن يتحقق لولا المجتمع الذي يعيش فيه. وكذلك فإن النجاح لا يمكن أن يستمر إذا استأثر به شخص أو أشخاص دون أن ينفتح على الجميع.
كانت البحرين هي همه الأول، ما أن يرى مصنعاً أو مشروعاً في بلد يزوره إلا وتمنى أن يكون في البحرين مشروع مثله.كان يحلم بأن تكون البحرين بلداً منتجة مصدرة، فساهم في إنشاء العديد من المصانع والشركات والمعاهد العلمية والمشاريع التجارية المختلفة، وعمل بجد وإخلاص وأمانة حتى يحقق هذا الحلم، فكان أسطورة في مجاله، ومعلماً لأجيال جاءت وستجيء من بعده.
كثيراً ما كان يقول إن محبة الناس لا تشترى بالمال وإن الإنسان مهما بذل من مال من أجل كسب ود الناس لن يحصل على ذلك، ما لم تكن تلك المحبة نابعة من القلب فالمحبة المرتبطة بالمصلحة محبة مؤقتة زائلة. وقد تبين لي مدى بعد نظره رحمه الله أثناء تشييع جنازته. فتزاحُم الناس في المسجد واصطفافهم خارجه ووقوفهم تحت أشعة شمس الظهيرة الشديدة لم يكن لمصلحة يرجونها من رجل قد توفي وإنما كان حباً لهذا الرجل الذي أحبوه حياً وشيعوه بقلوبهم ميتاً، فكان الحضور مهيباً يعبر عن مدى فقدهم له.
ولا شك بأن كل من حضر الجنازة المهيبة لهذا الرجل الكريم قد سمع من الواقفين بمختلف أطيافهم ومذاهبهم وأجناسهم كلمات الثناء والشكر وذكر مناقبه وأعماله الطيبة والدعاء بالرحمة والمغفرة وجزيل الثواب له رحمه الله تعالى.
كان رحمه الله كريماً في مشاعره كما كان كريماً في ماله، فلم يكن حبه يقتصر للناس على المحيطين به فقط من زملاء ومجتمع وإنما تعدى ذلك لجميع الناس. ويكمن سر هذا الحب الإنساني الكبير في حبه لأسرته وأبنائه وعلاقاته المتميزة بهم. فقد أعطاهم الثقة والقوة لإدارة شؤون حياتهم وبناء شخصياتهم أولاً ومن ثم انعكس ذلك على نجاحهم في إدارة المشاريع المختلفة التي يعملون عليها بما يضمن استمرار هذه الأسطورة الإنسانية الكبيرة.
نشأ عبدالله أحمد ناس، في عائلة متوسطة المستوى، لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب ولم يكن طريقه معبداً أو مفروشاً بالورود، وإنما واجه الصعاب وعصرته الحياة بحلوها ومرها، نجح وسقط فلم ييأس أو يستسلم وإنما كافح حتى استطاع أن ينجح مرات ومرات وفي كل كبوة كان يتعلم درساً يستفيد منه في تجاربه الجديدة.
ومن مفارقات الحياة ومصادفاتها الغريبة أنني كنت وبتوجيه من سمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة، أقوم بإعداد تقريرعن إنجازات ومساهمات فقيدنا الوجيه عبدالله ناس رحمه الله باعتباره من الشخصيات التي ساهمت في بناء مملكتنا الغالية من خلال الشركات والمشاريع الصناعية والتجارية الكبيرة التي أسسها وساهم فيها، وذلك لترشيحه لنيل جائزة (FORBES). وها أنا الآن أتوقف عن الكتابة مؤقتاً لأسطر هذه الكلمات أعبر من خلالها عن بعض ما يجيش في صدري من أحاسيس وحب لهذا الإنسان الكريم الذي لم تفارقه الابتسامة وفي أصعب اللحظات رغم الألم ولآخر لحظة من حياته. ومازلت أذكر عندما كنت معه وأحد أبنائه الكرام في لندن قبل يوم من إجراء عملية كبيرة له وعلى مائدة العشاء، حين كنت أحاول أن أقوي من عزيمته و أشد من عضده. كان رحمه الله هو من يقوينا ويشد من عزيمتنا ويعطف علينا فقد كان رغم المرض والألم إنساناً قوياً محباً للناس ومتفقداً لكل من حوله مهتماً بهم مؤمناً باستمرارية الحياة.
كانت خاتمة أعماله تبرعه السخي للأيتام، وإن من حسن الخاتمة أن توفاه الله في شهر رمضان الذي هو خير أشهر العام. فهنيئاً لك يا أبا سمير حسن الخاتمة.
رحم الله أستاذنا وحبيبنا عبدالله بن أحمد ناس وغفر له وأسكنه فسيح جناته وألهمنا وذويه الصبر والسلوان.

الأمين العام للمؤسسة الخيرية الملكية