كتب - عبدالله الذوادي:
«الحياة مجرد ورقة تنبت خضراء على غصن شجرة برعماً تكبر وتكبر خضراء تم تصفر وعندها يحين وقت التقاعد وتسقط بنية اللون وتعيش في طي النسيان فترة من الزمن، ثم تذبل في طريق التحلل ثم الموت، من هذا المنطلق وقبل تحلل ورقة حياتي التي سقطت من شجرة الحياة وجدت نفسي أتوق إلى تدوين تجاربي في العمل وسفراتي المتعددة إلى مختلف بلدان العالم».
هذه مقدمة كتبها الأخ العزيز وصديق العمر الراحل يوسف بن أحمد بن ثاني المريخي في «كتابه مذكراتي ومشوار حياتي» الذي صدر العام 2009، ولم يمض على صدوره سوى عامين ونصف حتى سقط يوسف من شجرة الحياة وغادرنا إلى مثواه الأخير الإثنين 29/مايو الماضي الموافق 20 رمضان 1434هـ حيث ودعناه عصر ذلك اليوم إلى مثواه الأخير في مقبرة الحنينية فرحمة الله عليك يا صديق العمر.
خدم في المنازل
طفلان يتيمان ساقهما القدر والحاجة للعمل كخدم في المنازل والمحلات التجارية للحصول على لقمة العيش والهدمة المستعملة لتسر أجسادهما.. أنا ويوسف المريخي كنا نمر بنفس الظروف، فبينما عملت لدى إحدى الأسر في فريق كانو كان يعمل لدى الصائغ عبدالله حنا في شارع الشيخ عبدالله، وكنا نلتقي أنا وهو في العين الواقعة شمالي مأتم العريض لغسل الأطباق والقدور، وكل واحد منا يجد ضالته في هذا اللقاء للبوح بهمومه لزميله ثم نفترق لنلتقي مرة أخرى في يوم آخر من الشقاء والمذلة لنشكو همومنا لبعضنا البعض. كان يوسف أحسن حظاً منى كان يعود إلى منزله بالحورة مساء كل يوم أما أنا فلا أرى الحورة ديرتي إلا كل يوم جمعة حيث كنت أبات في بيت معارفي، وكان أحسن حالاً منى فهو يتقاضى عشر روبيات في الشهر، وكنت أتقاضى ست روبيات فقط في الشهر مقابل عمل متواصل ليلاً ونهاراً حيث تبدأ ساعات العمل منذ أذان الفجر ولا تنتهي إلا بعد صلاة العشاء، طبعاً كنا أصدقاء منذ كنا ندرس القرآن الكريم عند الملا إبراهيم بن راشد الحسيني المحاذي بيته لبيت يوسف، وعندما كنت أتشاجر مع أحد المشاغبين في المطوع وكان يكبرني سناً بأكثر من عشر سنوات كنت ألجأ إلى بيت يوسف فتخبئني شقيقته تحت كم ثوبها حتى لا يتمكن مني ذلك الشقي ويوسف يرجف من الخوف خشية أن ينكشف أمري إلى ذلك المشاغب فيشبعني ضرباً، هكذا سارت بنا الدنيا وافترقنا، فقد حالفه الحظ والتحق بالمدرسة الغربية وحصل على عمل مسائي لدى إحدى الأسر.
راتب 15 روبية
لقد ذكر في كتابه أنه فضل العمل براتب قدره 15 روبية، على أن يظل عالة على والدته التي كانت مسؤولة عنه وعن شقيقتيه أسماء ومريم وشقيقه عيسى الذي يصغره سناً، كان طفلاً في هيئة رجل يقدر المسؤولية ولا يقبل أن يمد يده لأحد.
كبر يوسف وكبرت طموحاته وعمل في كثير من المجالات بعد ما ترك الدراسة في المدرسة ليخفف عن والدته مسؤولية الأسرة التي لم يترك لها عائلتهم سوى بيت عتيق يضمهم ويسترهم وكانت عزة نفس هذه الأسرة تمنعهم من مد أيديهم لأحد، علماً بأن خالته شقيقة والدته زوجة الوجيه جبر بن عبدالله الدوسري وكانت تعيش في شبه قصر ومن البيوت الجميلة في الحورة، لكنها آثرت الاعتماد على نفسها وعلى بنتيها أسماء ومريم وابنها يوسف في تحمل أعباء الحياة المعيشية وذلك بممارسة أعمال خياطة التطريز إلى أن من الله عليها بزواج بنتيها وعمل ابنها يوسف في بابكو وعمل ابنها عيسى الذي اضطر هو الآخر لترك الدراسة والالتحاق بعمل في بلدية المنامة.
سافر يوسف إلى السعودية وعمل هناك كانت رسائله تصلني باستمرار وأنا أدرس في المدرسة الغربية وللقارئ الكريم انصحه بقراءة كتابه «مذكراتي ومشوار حياتي» وكتابه الآخر «الأسفار» ففي هذين الكتابين تفصيلات غنية تعرفه بالكاتب وما واجهة من مصاعب وتجارب ولكنه صمد كصمود المجاهد في ساحة الوغى وانتصر.
العام 1954، وفي مارس من ذلك العام التحقت بالعمل في البنك الشرقي «تشارتد بنك» في الدوحة بقطر وكان أكثر من يخفف ويهون على آلام الغربة رسائله التي تصلني أسبوعياً، حيث بها نشرة أخبار عن الحورة وناسها وأهلها الذين افتقدتهم وأخبار فريق الوحدة الذي كان يرأسه الأخ العزيز المرحوم حسن بن عبدالله الرميحي، لم يستمر بقائي في الدوحة أكثر من ستة أشهر، وقد شدني الشوق إلى الحورة وأهلها وصديق عمري يوسف فعدت إلى البحرين في أغسطس العام 1954، وعملت في بابكو براتب 250 روبية بعد ما كان راتبي في البنك في الدوحة 700 روبية لكن حبي للفريج الذي عشت فيه ورفاقي وصديق عمري هون على مصيبة تلك الخسارة في الراتب.
تأسيس نادي الفجر
العام 1958 استمرت العلاقة الأخوية وازدادت وثوقاً عندما أسسنا نادي الفجر، باندماج نادي الوحدة بالحورة بنادي النصر في فريق الذواوده، وفي نادي الفجر برزت ظواهر سياسية، حيث كان الجو العام في العام العربي بعد ثورة تموز في العراق وسيطرة الشيوعيين على مقاليد الحكم في العراق وبدأت آثار ذلك تنعكس على الوضع في البحرين ونشط الشيوعيون في بت الفكر الشيوعي بين الشباب في النادي، ما جعل الحركات المناوئة لها مثل البعثيين والإخوان المسلمين والقوميين العرب يتصدون لهم، وزار النادي أحد قيادتي حركة القوميين العرب وفاتحني في الموضوع وأوضح لنا خطر الشيوعية على البحرين وعروبتها خصوصاً وأن الحزب الشيوعي في البحرين يتعاون مع حزب توده الإيراني وما تضمره إيران للبحرين من رغبة في احتلالها، وحباً في بلادي طلبت الانضمام إلى الحركة وطلب منى تشكيل أول خلية للحركة في الحورة، فلم أجد أعز من صديق العمر يوسف أحمد المريخي وفاتحته في الموضوع فوافق على الفور واتصلت بالأخ حسن الرميحي رئيس النادي لمعرفتي به وبوطنيتيه فوافق على الفور ثم فاتحت الأخ راشد القطان وعيسى أحمد ثاني فوافقاً وشكلنا أو خلية لحركة القوميين العرب واستمر العمل كل ذلك بفضل الصداقة القوية التي تربطني بالمرحوم يوسف، استمرت العلاقة الأخوية بيننا سنين طويلة رغم ما اعتراها من فتور في بعض الأحيان بانشغالنا بأمورنا الحياتية والأسرية، لكن الفرد كان قائماً بيننا إلى أن فرقنا الموت، فقد سبقني هو إلى دار الآخرة وكان الأمل أن أسبقه ولكن إرادة الله فوق إرادتنا جميعاً.
يوسف شق حياته بكفاح مرير وصبر وكان إنساناً عبقرياً بمعنى الكلمة، لو كانت حياته المادية أفضل لأصبح من أكبر عباقرة البحرين بل والعالم العربي لأنه يتمتع بمنح نظيف لا تعجزه أية مشكل وللتدليل على ذلك أطلب من القارئ الكريم قراءة كتابه «مذكرتي ومشوار حياتي» ويباع في المكتبة الوطنية وبسعر زهيد جداً، فرغم عدم أكمال دراسته إلا أنه تعلم من جامعة الحياة المفتوحة الكثير وقرأ الكثير خاصة عندما كان عضواً في حركة القوميين العرب، ولذلك عندما أصدر كتابيه «مذكراتي ومشوار حياتي» وكتابه الثاني «الأسفار» أدهش الكثيرين بأسلوبه، وأذكر أن الإعلامي الكبير والأديب والشاعر حسن سلمان كمال قال لي وبالحرف الواحد إٍننا نعرف يوسف من خلال تعامله مع الأجهزة الإلكترونية و»السكروب» في يده دوماً يفك هذا الجهاز ويشد ذلك ولكننا لم نعهد أن لديه هذا القلم الرشيق وهذا الأسلوب الأخاذ وكان مفاجأة. والذين لا يعرفون أي شيء عن إصدار كتابيه أقول لهم بأن يوسف هو أول من ألف كتابية وطبعها بنفسه على الكمبيوتر واختار الصور ووضعها في أماكنها المناسبة وخرج الكتابين فنياً دون مساعدة من أحد وسجلهما على CD وسلمه للمطبعة التي كان دورها طبعهما وتغليفهما، فمن منا أو من كتابنا يستطيع أن يفعل ذلك وبهذه الحرفنة لو لم يكن بو حمد يتمتع بهذه العبقرية الفذة، وأذكر أنه عندما كان يعد الكتابين للنشر يأخذ رأيي وكنت أنصحه بإلغاء بعض الفقرات أو المواضيع التي لا تناسب مع محتوياتهما، وكان دائماً يأخذ برأيي.
وقفت المادة عائقاً دائماً أمام يوسف، فعندما قرر طباعة الكتابين لم يكن لديه المال لتكاليف الطباعة، فاستنجد بوزارة الإعلام التي عمل بها أكثر من ثلاثين عاماً وقدم لها خدمات جليلة ووفر لها ألوف الدنانير، استنجد بها لطباعة الكتابين ولكن إدارة المطبوعات ركنتهما عامين كاملين مقرونة بوعود طالما طارت في الهواء، مما دعاه لسحبهما والاستنجاد بأحد أقاربه في الإمارات فبعث له بتكاليف طباعة الكتابين فطبعها، وقصر اليد هو الذي منعه من مواصلة إصدار الكتب ذلك لأن ظروفه الأسرية ومرض زوجته وشريكة حياته عطلت عطاءاته الأدبية والفكرية. هكذا هو الجحود الذي قوبل به يوسف من إدارة المطبوعات بوزارة الإعلام بعد ما أعطاها الكثير من جهده وأفكاره النيرة التي وفرت عليها آلاف الدنانير ولكنها لم تنصفه، ولولا أن خليل إبراهيم الذوادي لم يسع بطلب تكريمه بعد تقاعده تقديراً لخدماته لما كرم وهذا ما ذكره في كتابه «مذكراتي ومشوار حياتي»، حتى بعد وفاته شحت عليه الوزارة برفع تعزية إلى أهله وذويه تقديراً لخدماته لها بوجه خاص ولوطنه البحرين.
الحياة الزوجية
كأي شاب يتوق لتأسيس أسرة والزواج من ابنة الحلال، في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات فتح له محلاً لتصليح الراديو والمسجلات، بفريق الفاضل ووفق إلى حد ما في مشروعه خاصة وأنه كان يهوى هذا العمل منذ صغره وهناك رأى عدة مرات إحدى الفتيات من سكان ذلك الحي فتقدم لها ووافق عليه أهلها وتزوجها، لكن تلك الزيجة لم تدم طويلاً فافترقا، ثم تزوج بفتاة أخرى من المحرق وأنجب منها ابنه حمد وابنته سارة، وبعد الانفصال تزوج بزوجته الحالية فأنجبت منه بناته جهينة وفاطمة ولطيفة وابنه أحمد، وكان يحبهم كثيراً ويعتز بهم، وسار الولدان حمد وأحمد على نهج والدهما في حب العمل الإلكتروني والتلفزيوني، وكثيراً ما كان يتفاخر بهما وببناته خصوصاً إحداهن التي راجعت أحد كتابيه لغوياً.
لم يكن يوسف يشكو من أي مرض، وكان مهتماً بأم عياله المريضة، ويقوم بكل المهمات الأسرية، وذات مرة سألته ألا تعاني من أي مرض من أمراض العصر مثل السكر والضغط؟ فأخبرني بأنه لا يعاني من أي شيء، وكنا نلتقي مساء كل خميس ليلة الجمعة في مجلس بو علي، محمد علي تلفت وكان رحمة الله عليه يستلم المجلس بأحاديثه وحكاياته الجميلة وتجاربه في الحياة ولا يمل من تكرار بعض الحكايات، وكنا نأنس لأحاديثه التي تعيدنا إلى الزمن الجميل في أحياء الحورة وتجاربه العلمية والمختبرية التي كادت إحداها أن تودي بحياته لولا لطف المولي عز وجل، انقطعت فترة عن حضور مجلس بو علي بسبب ظروفي الصحية، وإذا بي أعلم من الأخ تلفت بأن يوسف أجريت له عملية قسطرة في المستشفى العسكري، فاتصلت به على الفور وأخبرني بأن العملية نجحت وأنه الآن في المنزل واستمر اتصالي به يومياً وإذا به يرد علي من المستشفى، حيث أعيد مرة أخرى لتعرضه لضيق التنفس، تحدثنا قليلاً واستمريت في الاتصال به يومياً وقال لي تصور يا بو حامد تكالبت علي الأمراض مرة واحدة، القلب وماء على الرئة والكلى والبروستات، فقلت له هذا كله بأسباب التدخين، فرد على ضاحكاً، بس هالمسكينة هي المسؤولة «يعنى السيجارة». في اليوم التالي اتصلت به كالعادة وإذا برده ليس كعادته يتكلم ببطء، فراعني حديثه وفي اليوم التالي لم يرد على مكالمتي المتكررة، فجأة اتصل بي الأخ محمد الأنصاري بو رياض فأخبرني بأنه زار يوسف في المستشفى ورأي عليه أجهزة التنفس، ثم أخبرنني الأخ محمد تلفت بنفس الحالة التي عليها يوسف، كان ذلك في شهر رمضان تحاملت على نفسي وطلبت من ابنتي أخذي إلى المستشفى بعد الفطور وكان يرقد في جناح العناية المركزة تغطي وجهة الأجهزة وكمامات الأوكسجين والتنفس الصناعي فاقداً الوعي تماماً أمسكت بكتفه خاطبته دون جدوى ودون حركة أو حراك، راعني منظره فأدركت حينها أن ساعة رحيله قد دنت وكان صمته يوحي بذلك.
يوسف المبتسم للحياة
أين ذلك الصوت الذي لا يمل الحديث؟ أين يوسف المبتسم للحياة دائماً رغم صعوبتها؟ أين الصديق بو حمد الذي يملأ المجلس في العيد بأحاديثه وقصصه ورواياته التي لا يمل من سردها؟ أين يوسف القومي العربي الأصيل الوفي لرفاقه؟ بعد يومين فقط من زيارته بلغت بوفاته؟ وترجل الفارس من صهوة جواده ليركب قطار الموت أو يلحق بموكب الخلود الأبدي، علمت بوفاته والحسرة والألم يعتصراني على فقد الصديق العزيز، صديق الطفولة والشباب والشيخوخة، أكثر من سبعين عاماً عشناها سوياً نتخاصم ونتصالح ويطيح الحطب كما يقولون مع أول لقاء.
كان لابد لي من حضور جنازة صديق العمر يوسف بن أحمد بن ثاني المريخي، وجازفت وسقت السيارة متوجهاً إلى مقبرة الحنينية، حاملاً معي قارورة في نصفها عطر دهن العود، سلمتها لابنه أحمد وطلبت من ابنه ابني العزيز أحمد أن يطيب بها كفنه لعله يتذكرني في قبره عندما يقابل الملكين الكريمين، حشد كبير من رفاق العمل كانوا هناك حملوا نعش يوسف على أكتافهم... لم أر أحداً من أبناء الحورة لعدم علمهم بوفاته ماعداً واحداً وهو الأخ جمعة محمد الحسيني الذي أخبرني يوسف بأنه مولود معه في ليلة واحدة... سكت الصوت الذي لا يمل الحديث.
سكت صوت يوسف بن أحمد المريخي وربما كان يتكلم ولكن لا نسمع صوته وهو يتجه إلى عالم البرزخ في رحاب المولي عز وجل الذي أرجو أن يعوضه بالجنة ونعيمها مع الشهداء والصديقين والصالحين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود ومساء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة... وداعاً أخي وصديقي وقريباً نلتقي إن شاء الله وأنتم السابقون ونحن إن شاء الله اللاحقون والدوام لله! فلك إن شاء الله الجنة ولأهلك ولنا الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون.