كتب: أمين صالح
السيناريو من العناصر الأساسية والمهمة التي يرتكز عليها أي فيلم، وكتابة السيناريو تستدعي من الكاتب أن يمتلك تجربة ثقافية وحياتية، إضافة إلى الخبرة الأدبية والفنية، تؤهله لصياغة نص جيد. ولأننا أمام محاولات جنينية، أو في بداياتها، فلابد أن نتوقع وجود ثغرات ونواقص في سيناريوهات الشباب. مثل هذه الثغرات بالإمكان تفاديها مع تنامي التجارب واكتساب المعرفة والممارسة العملية.
الملاحظ أن الشباب لديهم أفكار جيدة، ومبتكرة أحياناً، لكن هذه الأفكار غير مطروحة ضمن بناء فني متماسك، وحبكة مقنعة، وعبر سرد يخدم الفكرة بدلاً من أن يشوّشها.
إن طبيعة الأفلام القصيرة، وندرة كتّاب السيناريو، تجعل المخرج السينمائي يكتب فيلمه ويضع تصوراته الخاصة له ثم يقوم بتنفيذه. أن يتولى المخرج كتابة فيلمه هي حالة إيجابية وليست سلبية، فالمخرج ليس مجرد حرفي، أو منفذ مطيع لنصوص آخرين، بل هو فنان لديه رؤيته الخاصة للواقع وللعلاقات الإنسانية.. بالتالي هو أقدر من غيره على كتابة فيلمه.
يحدث كثيراً أن يتعاون المخرج مع كاتب سيناريو آخر، أو يعتمد على نصوص آخرين تنسجم مع رؤيته وتتوافق مع مخيلته وأفكاره وأهدافه.
السينما في البحرين، كما في أقطار الخليج الأخرى، تعاني من قلة، أو ندرة، العناصر الفنية المؤهلة سينمائياً، فالمخرج المتحمس لتحقيق فيلمه، على نفقته الخاصة، يحتاج إلى مصور وفنيّ صوت ومونتاج، وغير ذلك من العناصر، لذلك يضطر إلى التعاقد مع فنانين عرب أو أجانب، الأمر الذي يعني زيادة التكاليف. إن الافتقار إلى هذه العناصر يفضي بطبيعة الحال إلى إفقار الفيلم فنياً، والتقليل من قيمته وأهميته، وإفقاده القدرة على التأثير. العديد من الأفلام أخفقت بسبب نقص التجربة وسوء توظيف الأدوات من كاميرا وإضاءة وصوت وموسيقى ومونتاج، وضعف إدارة الأداء، والافتقار إلى الإدراك الحقيقي بتقنيات السينما.
لاشك أن هناك العديد من السينمائيين عندنا يفتقرون إلى المعرفة والوعي، وتنقصهم الثقافة السينمائية. لكن هذا ممكن اكتسابه عبر التجربة والاحتكاك والمتابعة.. والدراسة إذا كانت ممكنة من خلال حصولهم على منح دراسية أو بعثات لحضور دورات في السينما، أو من خلال إقامة ورش فنية متخصصة.
هناك من يتقاعس عن تطوير ذاته ثقافياً وفنياً، ولا يحرص على المشاهدة والقراءة، لكن لا ينبغي تعميم هذا الانطباع على جميع الذين يحققون أفلاما. هناك من يمتلك وعياً فنياً، وثقافة سينمائية جيدة، ولديه متابعة ملفتة لمختلف نتاجات السينما العالمية.
على الرغم من الحضور العربي والدولي لعدد من أفلام دول الخليج في المهرجانات وحصول بعضها على جوائز مهمة وإشادات وشهادات تقديرية، إلا أنها تبقى مجهولة في بلدانها، ولا جمهور لها. إن الاهتمام بالفيلم المحلي يكاد يكون مقصوراً على المهتمين بهذا الشأن. من ناحية أخرى، الأفلام القصيرة لا تتوفر لها فرص العرض في صالات السينما، بل في صالات خاصة صغيرة، وبحضور جمهور محدود جداً.
هذه مسألة تفرضها طبيعة العلاقـــة القاصرة، غير السوية، بين الجمهـــور والأفلام القصيرة من جهة، وبين الموزعين أو صالات العرض والأفلام القصيرة. حل هذا الإشكال ممكن عبر الاتفاق مع أصحاب الصالات على عرض الأفلام القصيرة قبل العروض الرئيسة، أو تنظيم أسابيع خاصة للأفلام القصيرة في إحدى الصالات، أو عرضها على شاشة التلفزيون.
عموماً، لا ينبغي لهذا أن يشل حركة صانعي الأفلام ويزرع اليأس في نفوسهم، بل أن يخلق نوعاً من التحدي، والانحياز إلى الإبداع لا إلى أي هدف آخر.
نقدياً، كيف يمكن أن نقيم تجارب سينمائية (تشمل الأفلام الطويلة والقصيرة معاً) لاتزال تعيش طفولتها.. طريةً وهشةً لاتزال (رغم أنها تعد بالكثير).
هل يمكن لهكذا تجربة، محاطة بما لا يحصى من عقبات وعراقيل ومشكلات، أن تصمد أمام نقد صارم لا يكترث بالمبررات والمعطيات بل بالنتائج، بما هو معروض على الشاشة كعمل منجز، منته، مكشوف أمام النقد والتقييم، أمام استجابات وردود فعل الجمهور والنقاد على سواء. هل يحق لنا كنقاد (الآن على الأقل) أن نأتي إلى هذه الأفلام (التي لا تدّعي الاحترافية ولا تزعم النضوج الكلي) مسلحين بأدواتنا النقدية -الحادة والحازمة غالباً- لنحلل ونشرّح ونقيم عناصرها وتقنياتها ومحتواها كما نفعل عادةً مع أفلام المحترفين، فنحكم عليها -ربما- بالفشل والضحالة والسذاجة، وبالتالي نعرّض أصحاب هذه التجارب إلى سلسلة من التوبيخ والاستهزاء والإذلال، والتي قد تفضي بمنتج الفيلم إلى الإحباط واليأس، وربما الاعتزال المبكر، إن لم يملك الثقة بالنفس، وافتقر إلى الحصانة الفكرية والنفسية التي تساعده على تقبل النقد بمرونة وبوعي. لكن، من جهة أخرى، هل حداثة التجربة وطراوتها، بحكم البدايات، تشفع لمخرج الفيلم كل أخطائه وشوائبه ونواقصه؟ هل تكون ذريعة للتغاضي عن ضعف عمله أو سلبياته؟
إذا كان النقد الصارم عاملاً حاسماً في إلحاق الضرر بمنتج العمل، وربما تدمير موهبته الغضة التي لم تتبلور وتتقوّى وتتماسك بعد، ألا يمكن للنقد المتساهل، المتعاطف، المتغاضي عن الأخطاء، أن يمارس الضرر نفسه؟
إن عدم مكاشفة ومصارحة منتج العمل بكل سلبياته ومواطن ضعفه، بذريعة أنه سيكتشف الخلل بنفسه مع استمرارية التجربة، ربما تنمي لدى هذا المنتج شعوراً زائفاً بالأهمية، والتوهم بأن عمله يخلو من العيوب والنواقص، وقد يدفعه زهوه وغروره إلى الإحساس بعدم حاجته إلى النقد وإلى تبادل الآراء حتى مع أقرانه، فيصاب تدريجياً بالهزال والتآكل، ولا تعود موهبته قادرة على التوهج والومض.
إنها حقاً معضلة يواجهها الناقد في أي محاولة لتقييم التجربة: هل يتخذ الموقف الصارم، الذي لا يخلو من القسوة، دون مهادنة أو مجاملة على حساب الفن.. أم الموقف المتساهل الذي يحنو على العمل وصاحبه، رغم كل عيوبه، مراهناً على إمكانية التجربة في صقله وتمكينه من تجاوز أخطائه؟
ختاماً أقول، لابد أن هؤلاء الشبان، منتجي الأفلام، يتمتعون بروح عالية من الشغف بالفن السينمائي من جهة، وتحدي الواقع الرافض لهم من جهة أخرى. وهم يعلمون جيداً أن أمامهم طريقاً طويلاً وشاقاً من النضال في سبيل فرض أنفسهم (وأفلامهم)، وإثبات حضورهم في الساحة الثقافية، وانتزاع اعتراف الآخرين بهم.
لولا عشقهم للسينما، وشغفهم بالتعبير عن ذواتهم وأفكارهم وهمومهم وأحلامهم من خلال السينما، لما تجشموا كل هذا العناء في مخالفة المعايير السائدة، وبذل المال والجهد والوقت في تحقيق أفلام لا تجد لها قنوات للعرض والانتشار.
هؤلاء الشبان، بأفلامهم القصيرة، الدرامية والوثائقية، يجاهرون بحقهم في التعبير، وفي العيش حسب ما تمليه قناعاتهم لا كما يريده أو يفرضه الآخرون. بالطبع نحن لا نتوقع أن تكون كل التجارب متميزة وعميقة، لكن مع الوقت، مع ثبات وتأصل الشغف بالسينما، مع توفر الرعاية والاهتمام والدعم، لابد لنا أن نشهد إنتاج أعمال مهمة، متميزة، ذات غنى وتنوّع في الرؤية والأسلوب والمعالجة والطموح.