كتب - علي الشرقاوي:
ابن فريج الفاضل، ومن خلال فرضته الصغيرة كان يستقبل سفن العالم محملة بالحاجات اليومية لإنسان البحرين، الرز والقمح والسكر والدهن والخضروات والدنجل والأخشاب والصل والودج، وكل ما جادت به أراضي الهند والصين وأفريقيا من بضائع وأناس.
في فريج الفاضل سنة 1938، في بيت يطل على بيوت الزامل والبسام بجوار مسجد عبدالرزاق، أبصر عبدالرحمن رفيع النور، ليكون أحد الأصوات المؤثرة في الساحة الخليجية والعربية والعالمية أيضاً.
خرج رفيع ليقول كلاماً غير الكلام المتداول المألوف، ويطرح أسئلة محرجة على العالم الذي يعيش، جاء ليكون صوتاً مختلفاً مغايراً غير مسبوق في طرحه ورؤيته.
شيء من أيام الصبا
في أكثر من حوار ولقاء ودردشة، تكلم الشاعر عبدالرحمن رفيع عن طفولته، وفي حوار أجراه معه عبدالغني بو ضمرة لجريدة العرب يتناول رفيع ولادته ونشأته الأولى «ولدت في المنامة سنة 1938، في بيت متمسك بالدين تمسكاً كبيراً، كان الكتاب الوحيد الموجود في منزلنا هو القرآن الكريم».
صادف أن يكون أحد جيران رفيع من أوائل الدارسين بالجامعة الأمريكية في بيروت «الوالد أهدى لابنه حقيبة مليئة بكتب التراث مثل كتاب الأغاني والعقد الفريد والبيان والتبيين والمثل السائر والبخلاء وغيرها الكثير من المصادر وأمهات الكتب».
ويقول رفيع «شخصياً أنا محب للقراءة، ووراقٌ بالفطرة، إلى درجة أنهم كانوا ينادونني على المائدة وأرفض لإكمال الفصل أو الفقرة.. الحقيبة كانت منعطفاً كبيراً في حياتي المستقبلية»، وقضى عبدالرحمن في الكتاتيب «المطوعة» 4 سنوات، أصلت فيه اللغة القرآنية.
مسؤول عن جريدة حائطية
عندما دخل عبدالرحمن إلى الابتدائية اختبر، وبدل وضعه في الصف الأول انتقل فوراً إلى الصف الثاني، وفي نهاية المرحلة الابتدائية كان مسؤولاً عن الجريدة الحائطية بالمدرسة.
ويضيف «نحن من عائلة تميل إلى اللغة بالفطرة، فأهداني مدير المدرسة أستاذ اللغة العربية جواد الحبشي كتاب حديث الأربعاء لطه حسين، وانتقلت من قراءة كتب التراث إلى علم من أعلام العصر الحديث، وكان هذا أول اتصال لي مع كتب النهضة العربية الحديثة، وعن طريق هذا الكتاب بدأت أزور المكتبة العامة في البحرين، إلى درجة أن بدأت أطلع على الأدب الإنجليزي، وكان في المكتبة مسرحيات لشكسبير، وبدأت المسير في طريقين متوازيين».
في رحاب الثانوية
كانت المرحلة الثانوية حينها بدون توجيه، لقلة الإمكانات في البحرين «ابتعثت إلى القاهرة سنة 1956، وهناك دخلت مدرسة ثانوية، وفي مكتب القبول بالجامعة دونت كلية التجارة ثم الآداب وأخيراً الحقوق، ومكتب التنسيق يختار الرغبة حسب ما تحوزه من تقدير، ثم حددت لي كلية الحقوق، مع العلم أني على صلة وثيقة بالأدب».
فوجئ رفيع أن زميله وصديقه د.غازي القصيبي يدرس في كلية الحقوق «بدأنا نتصل بالحياة العملية، فالجامعة مليئة بالطلبة العرب من الشام والعراق والكويت، وعن طريقهم بدأنا نطلع على الاتجاهات الكبرى في السياسة العربية، وهناك كان القوميون والبعثيون والإخوان، واختلط الأدب بالسياسة».
انضوى عبدالرحمن رفيع تحت مظلة الإخوان المسلمين لفترة من الزمن، ثم اتجه إلى حزب البعث بشكل سطحي، وأخيراً فضل أن يكون مستقلاً، ويتفاعل مع كل الاتجاهات «هنا بدأت أكتب القصيدة بمعناها الحقيقي، ديواني الأول كان يمثل فقرة القاهرة، أما الأخريات فهي نتاج البحرين».
لم يكمل رفيع دراسة الحقوق، ولم يكمل أي عمل بدأه في حياته «تركت الجامعة بعد ترفعي للسنة الرابعة، فقط لأني فوضوي وبوهيمي، وقلت لنفسي إن الدراسة يمكن أن تنتظرني، وأنا أخذت ليسانس في جامعة الحياة، وأما الليسانس الرسمي فلم أحصل عليه أبداً».
وبعد فترة تجول اشتغل في سلك التدريس «لسوء حظي قضيت 7 سنوات من عمري في التدريس، ثم انتقلت إلى وزارة الدولة للشؤون القانونية وعملت هناك 5 سنوات، ثم إلى وزارة الإعلام ـ إدارة الإعلام والفنون، وعملت مراقباً للشؤون الثقافية حتى أحلت على التقاعد سنة 2003».
العلاقة مع الطلبة
منذ عودته إلى أرض الوطن، بعد رحلة دراسية قضاها في جامعة القاهرة، ولم يصل فيها إلى مرحلة التخرج واشتغاله بالتدريس، رأينا عبدالرحمن رفيع يكتب أكثر من تجربة في مجال العلاقة بين المعلم والتلميذ، بالفصحى والعامية.
الجيل الجديد الخارج من نكسة يونيو عام 1967 التقى وجهاً لوجه مع تجربة رفيع المغايرة، وعرفه شاعراً يدخل في الأحداث بصورة غير مسبوقة، ورغم أننا كنا مانزال نحمل الروح الطلابية، إلا أن رفيع كان أكثر من الجميع في الكتابة عن ثورة الطلبة التي غطت كل العالم عام 1968 وغيرت الكثير من السياسات، إضافة إلى خلق جيل جديد تناقضت رؤيته من الأحزاب اليسارية والعمالية في العالم.
عبدالرحمن الرفيع هو الشاعر البحريني الوحيد الذي احتفى شعراً بتجربة ثورة الطلبة التي أعادت صياغة العالم، واستطاعت أن تخلق مفكريها الجدد، أو كما يسمون نقاد ما بعد الحداثة.
رؤية رفيع للشعر الشعبي
يقول رفيع إن الشعر الشعبي يمتاز بأنه يخاطب جميع الفئات ويشبهه بـ»الخبز الساخن»، لافتاً إلى أنه يمتاز عن الشعر الفصيح بمخاطبته الشريحة الأوسع «هو لغة التخاطب اليومية وأروع مثال على ذلك العامية المصرية، تربينا عليها وتعلمناها من الأفلام والمسلسلات المصرية، فاللهجة المصرية مأهولة بالشعر»، ويعطي مثالاً على ذلك مقاطع من رباعيات صلاح جاهين.
أنا اللي قلبي في المحال ارتوى
شفت القمر
نطيت لفوق
طولته ما طولتوش إيه ها يهمني
وليه مادام بالنشوى قلبي ارتوى
ويرد رفيع على سؤال هل يوجد انعكاس سلبي للشعر الشعبي على الفصيح؟ بحكاية تاريخية «كان أحمد شوقي يقول أخشى على الشعر من بيرم التونسي، والحقيقة أن أحمد شوقي كان يغار من بيرم بدليل أن شوقي اتجه إلى الشعر العامي لاحقاً، وكتب الأغاني بالعامية لمحمد عبدالوهاب، وليس له انعكاس سلبي على الفصيح لأن القرآن والحديث النبوي يسند اللغة، كما إن الشعر العامي يمتاز بأنه يخاطب الطبقة العريضة من الجماهير، أما الشعر الفصيح فيخاطب فئة المثقفين».
ويضيف «إذا كان هناك شاعر عامي فهناك عشرات الشعراء الفصيحين، أما عن سلبياته فإن مفرداته تتغير أكثر من الفصحى لأنها عرضة للتجارب اليومية، أما الفصحى ففيها نوع من الثبات، كما إن الشعر العامي يمتاز بالتقوقع والإقليمية، فمثلاً العامية المصرية تستسيغها بينما السودانية تستاغ بالسودان والمغربية بالمغرب فقط».
صدمة رفيع بموت والدته
ويجيب رفيع على سؤال جريدة العرب القطرية.. كيف تسللت الفكاهة إلى شعرك؟
هذه عملية نقدية، سؤال نقدي، ولست مخولاً بالإجابة عنه، ليس من المفروض أن أجيب، لكن أقول لك أنا عندما أجلس لأكتب لا أقول ينبغي أن يحتوي ما أكتبه سخرية، وجد.. وهكذا.
هذا شيء يأتي عفو الخاطر، فقط لأني عشت فترة دينية ملتزمة جداً، لدرجة كنت أوقظ والدي لصلاة الفجر، وعندما ماتت والدتي صدمت، وهذه الصدمة خلخلت الجانب الذي كنت أتمسك به، لم تزعزع إيماني بالله، لكن زعزعت نفسيتي، وجعلتني أكثر قابلية للرأي الآخر، وللوجهة الأخرى، ولم أعد أنظر للحياة من جانب جاد جاف، وهذا ما جعلني أنظر للحياة من زاوية أخرى، وقلت لا تستحق الحياة كل هذا الجد، وصبغت أشعاري بصبغة الكوميديا السوداء، أو ما أطلق عليه الضحك الباكي.
وعن طريق الضحك الباكي، ومثلما قلت لك، عندما درست الجاحظ كنت معجباً به، يغلف جده بضحكه، إلى درجة أنه كان يروي عن نفسه.
الكلمة مازالت سراً مغلقاً
في معرض رده على سر الكلمة في شعره يقول «تقع في موضع بين العقل والوعي واللاوعي بين الشمس المشرقة والعتمة المغرقة، الكلمة هي سر إلى الآن لم تكتشف، وهذه الكلمة تصلح لكل زمان ومكان».
وخلال مسيرته الطويلة حفظ رفيع الكثير من الأشعار القديمة والمعاصرة، ليكون أهم الشعراء الأحياء القادرين على إعادتنا إلى شعر الظرف العربي، في كل الأزمنة والأمكنة.
وهو الشاعر الأكثر شعبية بين جيله من الشعراء، ويكاد لا يضاهيه أحد في الحديث الشعري عن غازي القصيبي، وفي أغلب اللقاءات والحوارات مع رفيع، لابد أن يكون القصيبي حاضراً، فهو شقيقه الروحي الذي لا يمكن أن يغادر ذاكرة التجربة الشعرية والحياتية التي عاشاها معاً.
هو يسرد دائماً ويلقي أشعاراً، كتبت بينه وبين غازي منذ مراحل الدراسة الثانوية، مروراً بالمرحلة الجامعية في القاهرة وصولاً إلى فترات زمنية أخرى وهو يقرأ الشعر ويحفظه، بعد أن أخرجه من بين جدران المجالس الخاصة، منطلقاً من مرحلة الدراسة الثانوية، حيث تعرف على غازي في الصف الأول الثانوي، متوقفاً بالقول «بدأ بعدي الشعر بفترة بسيطة، وكان مهيئاً للشعر» تخنقه العبرة، يصمت، ثم يعود ليضيف «لم أكن أجرؤ أن أكتب غزلاً في البنات، وقتها بدأت الشعر الغزلي في الوردة وقصيدة في فلسطين»، في إشارة إلى أن غازي كان السباق دائماً.
مرحلة لا تموت
يؤكد رفيع أن المرحلة الأكثر تشويقاً وفكاهة في حياته هي المرحلة الجامعية بالقاهرة نهاية الخمسينات، وذكريات غازي الطالب الذي يتبادل الشعر الغزلي مع الرفيع خلال المحاضرة.
ومن أبيات القصيبي يتذكر الرفيع «إيه يا تافهة مغرورة أي شيء فيك يدعو للغرور» وهي في إحدى زميلاتهم بالجامعة، عابراً على مجموعة قصص ورسائل شعرية بين الشاعرين، ومنها ما كتب القصبي أيضاً «سألتك رفقاً بهذا الغريب، وفي خطوه حيرة العاشقين» متوقفاً عند المنافسة الشعرية بين الشابين اليافعين خلال تلك المرحلة التي كتب حولها القصيبي رواية «شقة الحرية»، ما لا يخفيه الرفيع الذي أكد لـ»ثقافة اليوم» أنه كان موجوداً بين شخوص الرواية، رافضاً -بابتسامة- أن يفصح عن شخصيته الورقية.
مجالات أخرى
الكثير من متابعي الشاعر الكبير عبدالرحمن رفيع لا يعرفون أنه اشتغل في مجالات فنية أخرى غير الشعر، منها كتابة مسرحية «زمان البطيخ» التي قدمها نادي الاتحاد الشعبي أوائل السبعينات، وكتابة أغاني مسرحية «عامر والقرد» قدمها مسرح أوال من إخراج قحطان القحطاني في السبعينات كأول مسرحية أطفال في البحرين، وكتب مقدمة مسلسل «عجايب الزمان» لتلفزيون البحرين ومن إنتاج حمد الشهابي، وكتب الأغنية البحرينية الناجحة التي لحنها وغناها الفنان الكبير أحمد الجميري وتقول كلماتها..
خضر نشلج على عودج تزينينه ولا يزينج
وأحب هالورد الدايم ربيع أحمر على خدودج
وأحب السحر الفتان ينبع نور من عيونج
وأحب الحنة لين ينبان ويبرق فوق ظفر ريلج
وتقولين يا بعد جبدي وأقول لج يا نظر عيني
أعرفج زين أعرفج
من المحرق وصيف العين بحريني
ولعبدالرحمن رفيع العديد من البرامج التلفزيونية نقل منها إلى المشاهدين تجاربه الشعرية، والحكايات الشعرية أو المساجلات التي عاشها مع الشاعر غازي القصيبي وغيره من الشخصيات المهمة في البحرين وخارجها.
وصدرت للشاعر باللغة العربية الفصيحة دواوين «أغاني البحار الأربعة» و»الدوران حول البعيد» و»يسألني؟» و»ولها ضحك الورد»، وفي العامية «قصائد شعبية» و»سوالف دينا» و»ديوان الشعر الشعبي» و»العرب ما خلو شي».
الدوران حول البعيد
مرت رحلة عبدالرحمن رفيع الحياتية والشعرية بالعديد من الأقاليم نظرت إلى البعيد، وكنا نطمح أن يجمع كتاباته وينشرها في كتاب، لتلقي الضوء على فترات لم نعشها، خاصة في الأربعينات وأوائل الخمسينات، وطبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عاشها أبناء البحرين، لأن مثل هذه الذكريات تسهم في تعريفنا على ما لا نعرفه عن طبيعة أحلام الإنسان البحريني.
ويبقى عبدالرحمن رفيع نسيج وحده وخالق عالمه الخاص وتجربته المميزة، ويبقى شاعراً أثر في عدة أجيال وعلى جميع المستويات الفنية والثقافية، مسرح، أوبريت، أغنية، تلفزيون.
من قصيدة «البنات»
للشاعر عبدالرحمن رفيع
غمض عيونك تصور بلدة ما فيها بنات
الشواطىء خاليات والشوارع خاليات والمجالس خاليات
فتح عيونك وقولي مثل شنهو هالحياة
وش كثر ثم وش كثر لولا البنات
البنات هم البداية لولا حواء ما صحى آدم وظل في سبات
ما خفق قلبه ولا تحرك شعورك وتمت عيونك مغمضة
من حكيهم من ضحكهم يضحك اللؤلؤ يتناثر بالمئات
ومن سحرهم تنسحر دنيا بكبرها
هم الساس وتاج الراس وكل الناس
وهم جنة الماضي والحاضر واللي آت
وش كثر ثم إش كثر كانت لولا البنــــات
كانت كريهة هالحياة
وأنت طاير منهو يطرد عنك هموم
السفر في الطائرات البنات
وأنت جايم وأنت نايم منهو دايم يفتح
عيونه عليك يسهر يبات البنات
قولي منهو الي يخلي قلبك
الخامد يشب غير البنات
وأنت متضايق وقرجان في الزعل منهو
يقلب عيشتك المرة عسل البنات
في الروايات والقصص ما حلت
قصة ولاطابت رواية خالية ما فيها بنات
هم شيء في كل شيء وهم
وكل حي لو طفت ساعة مكينة الكهربا هم القمر
إش كثر تربح «بتلكو» من حكي
الناس في البنات
تيلفونات إتكلم بيجرات دوم إترن
هذي بالنقال ينادي سارح وياه جوادي
وهذي في الإنترنت طول الوقت ما يسكت
في الأغاني والمباني وأنت أول وأنت ثاني
الكلام كله عن البنات
وش كثر ثم إيش كثر كانت
كريهة هالحياة لولا البنات
قولو آمين لين دعيت الله يخليلنا البنات