كتب - أمين صالح:
فيلم المخرج الإسباني لويس بونويل «جميلة النهار» Belle de Jour 1966 مأخوذ عن رواية جوزيف كيسل، المنشورة في العام 1929. عن شابة جميلة تدعى سيفرين (كاترين دينوف) من عائلة بورجوازية، متزوجة من طبيب شاب تحبه بعمق، ومعاً يعيشان في شقة أنيقة تتوفر فيها كل وسائل الراحة، لكن زوجها الطيب والمهذب غالباً ما يكون غائباً، جسمانياً وعاطفياً.
في مشاهد الافتتاحية، نرى سيفرين مع زوجها داخل عربة تجرها الخيول، في طريق ريفي. الزوج يقول لها: «أود أن يكون كل شيء مثالياً، لو لم تكوني باردة إلى هذا الحد». هي تعتذر بلطف. اعتذارها يضرم فيه الرغبة في معاقبتها على نحو جنسي سادي. بطلب منه، يقوم سائقا العربة بإخراجها عنوة من العربة، وجرها عبر الأشجار، ثم تكبيلها وسد فمها وتجريدها من ملابسها وجلدها، وأخيراً يقوم الرجال باغتصابها.. هنا يتغير تعبير وجهها من الرعب، الذي أحدثه التهجم والاعتداء، إلى الاستسلام الكلي للذّة والانتشاء.
بعد هذا المشهد ننتقل مباشرة إلى الشقة، حيث الاثنان يتهيآن للنوم، كل منهما على سريره الخاص، وهو يحاول أن يمارس معها، لكنها تصدّه. هنا نكتشف أن المشهد السابق كان محض تخيّل جنسي في ذهن الزوجة الفاترة جنسياً، والتي -رغم مرور عام على زواجهما- لا تستطيع أن تمنح نفسها لزوجها.
في الظاهر، على مستوى السطح، هي تبدو الزوجة البورجوازية المثالية، لكن في العمق ثمة جروح لم تندمل أحدثها القمع الديني والكبح الأبوي المفروض عليها منذ الطفولة (عبر مشاهد فلاش باك تدور كلها حول أوجه من التلوث والدنس والإذلال التي تعرضت لها)، والذي صار ينتج أو يفرز أشكالاً من الحلم -التخيل حافل بصور تحمل مظاهر سادية- مازوشية مهينة. في أحلام اليقظة تتخيل تعرضها لأنواع من العقاب السادي، على يد زوجها أو آخرين من الرجال الذين مروا في حياتها، حيث تشعر بالذعر في البداية ثم سرعان ما يتحول إلى استسلام وإذعان باعثه اللذة الحسية والرغبة الجنسية، مع إنها في حياتها الزوجية تشعر بالبرود الجنسي، وتقاوم أي اتصال جسماني مع زوجها، مثلما تصد بازدراء محاولات صديق زوجها الثري (ميشيل بيكولي) الذي لا يكف عن إغوائها ومراودتها عن نفسها. خلف هذا البرود تتأجج تخيلات جنسية متوهجة.. علماً بأن الفيلم لا يحتوي على مشاهد عري أو إثارة جنسية مدغدغة للغرائز، بل يعتمد على الإيحاء.
ذات يوم تكتشف أن امرأة، من معارفها، تعمل في ماخور. تدريجياً تصبح ممسوسة بالتفكير في وضع كهذا. عندما تحصل على عنوان إحدى شقق الدعارة، تتقدم بطلب عمل هناك، بحيث تعمل ظهراً فقط، لثلاث ساعات، تحت اسم مستعار هو جميلة النهار.
في الماخور تجد الجنس القذر والدنيء.. التجسيد الحي للتخيلات الغريبة. إن فتورها الجنسي مع زوجها، يحفزها على التماس الإذلال من خلال أفعال مازوشية. وهي تقع في غرام أحد زبائنها: رجل عصابات عنيف وغيور، يكتشف حقيقتها فيحاول التخلص من زوجها، لكنه يتسبب فقط في شلل الزوج. الشعور بالذنب يغمر البطلة فتعترف لزوجها بكل شيء لكنه لا يغفر لها.
يقول بونويل: «لم أحب أبداً الرواية، بالأخص نهايتها حيث تبدو الفضيلة مصونة. لكنني وجدت أن من الممتع تحويل شيء لا أحبه إلى شيء أحبه. هناك بعض المشاهد في الفيلم أسعدتني جداً، وأخرى لم أرتح لها أبداً. ينبغي أن أقول بأنني تمتعت بحرية تامة أثناء التصوير، ومن ثم أعتبر نفسي مسؤولاً تماماً عن النتيجة. الموضوع سخيف لكنه آسر. حشد من العاهرات، مع تناقضات رهيبة بين الأنا العليا ومصدر الطاقة الغريزية في اللاشعور. إنه نقيض ما يعوق السينما في يومنا: حبكة مخططة ومفسّرة بشكل جيد، وافتعال عالم زائف ومغرٍ جداً».
أسلوب بونويل البصري يبدو في الظاهر وظيفياً، يتجنب الاستعراض والإبهار، مركزاً بؤرته على العناصر الضرورية. صوره تتدفق بحيوية ورشاقة، وكاميرته تتابع الشخصيات على نحو متواصل، مشكلة تكوينات جذابة، وملتقطة التفاصيل المهمة. وتجدر الإشارة إلى أنها المرة الأولى والوحيدة التي يتعاون فيها بونويل مع المصور العظيم ساشا فيرني.
في هذا الفيلم يتشابك المألوف والملغز، يتداخل الواقع والحلم، على نحو يتعذر فصلهما.. يقول بونويل: «أنا نفسي لا أستطيع أن أقرر ما هو حقيقي وما هو متخيل في الفيلم. بالنسبة لي، هما يشكلان شيئاً واحداً».
هنا يوجه بونويل هجاءً لاذعاً للكبح الجنسي واللياقة الاجتماعية.
يقول بونويل: «عندما كنت شاباً، كانت الحركة السوريالية في فرنسا من أكثر الحركات الفنية عنفاً في العالم. كنا نستخدم العنف كسلاح ضد المؤسسات. الآن المجتمع نفسه صار عنيفاً جداً إلى حد أنك تجد صعوبة في استخدام العنف لصياغة بيان فني. لذلك، آثرت أن أفعل ذلك بواسطة الدعابة».
وقد حاز الفيلم على جائزة مهرجان فينيسيا.