لم يكن يوم الأول من سبتمبر الجاري يوماً عادياً في تاريخ البحرين بل والأمة العربية بأسرها، فهو يرتبط بحدث مهم له ما قبله وله ما بعده في التاريخ الحديث لمملكة البحرين بل وللأمة العربية، وهو اختيار المنامة مقراً للمحكمة العربية لحقوق الإنسان بموجب قرار مجلس جامعة الدول العربية في دورته ال 140 المنعقد في القاهرة في اليوم المذكور. وقد جاء هذا القرار استجابة لمبادرة جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، حفظه الله ورعاه، التي قدمها خلال القمة العربية الرابعة والعشرين بالدوحة في مارس الماضي بأن تكون المنامة مقراً دائماً لانطلاق أعمال المحكمة وأنشطتها. والمحكمة، التي تعد أهم الأجهزة المرتبطة بجامعة الدول العربية التي تتخذ مقراً لها خارج القاهرة، تمثل خطوة مهمة ورؤية مستقبلية تواكب تطلعات الشعوب العربية نحو تلبية متطلبات حماية حقوق الإنسان العربي إلى المستوى الذي وصلت إليه الدول في المناطق الأخرى من العالم. وترجع هذه الأهمية التاريخية إلى العديد من العوامل.
استكمال المنظومة
ابتداءً، يعد إنشاء محكمة إقليمية لحقوق الإنسان حدثاً فريداً في تاريخ تطور منظومة وترتيبات حقوق الإنسان العالمية، فهو لم يتكرر إلا بضع مرات فقط، بدءاً من إنشاء المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في عام 1959م في باريس، ثم المحكمة الأمريكية عام 1980م بمدينة سان جوزيه في كوستاريكا، فاللجنة الآسيوية لحقوق الإنسان، ثم المحكمة الأفريقية عام 2004م بمدينة أروشا الكينية، وأخيراً تأتي المحكمة العربية لتكون الحلقة الأخيرة في هذه المنظومة؛ ومن هنا تأتي أهمية إنشائها لكل العرب لتكمل نقصاً كان يشار إليه في المحافل الدولية عندما يأتي ذكر الترتيبات الإقليمية لحماية والحفاظ على حقوق الإنسان.
أما بالنسبة لمملكة البحرين، فإن اختيار المنامة مقراً للمحكمة يعد بمثابة اعتراف عربي ودولي بالمكانة الرفيعة التي يتبوأها سجل حقوق الإنسان في مملكة البحرين منذ انطلاق المشروع الإصلاحي لجلالة الملك؛ وهو اعتراف لا يقل في قيمته التاريخية –من وجهة نظر موضوعية- عن الاعتراف الأممي باللغة العربية ودورها كناقل للثقافة والعلوم بين الحضارات، وذلك عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها التاريخي في عام 1974م باعتبار اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية في الأمم المتحدة.
المنامة.. لماذا؟
فهل كان اختيار المنامة لكي تكون مقراً للمحكمة العربية لحقوق الإنسان يعود فقط لسبب بروتوكولي محض –رغم قيمته في الواقع- وهو مجاملة الدولة صاحبة مبادرة استضافة المحكمة؟ وبقدر بساطة السؤال ووضوحه، فإن الإجابة على نفس القدر من الوضوح أيضاً، وهي أنه رغم قيمة هذا العامل (البروتوكولي) إلا أنه ليس العامل الوحيد أو الأبرز، بل إنه يأتي في مرتبة متأخرة في واقع الأمر ضمن مجموعة العوامل التي أدت إلى هذا الاختيار؛ فالمملكة لديها من التاريخ والمقومات التي تجعلها تحتل هذه المنزلة الرفيعة، من حيث دورها المحوري في السياسة الدولية والعربية، ومشاركتها بإيجابية في فعاليات وأنشطة الجامعة منذ انضمامها فور الحصول على الاستقلال عام 1971م.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه بالنظر إلى سجل المملكة الناصع في مجال حقوق الإنسان، نجد أن اختيار المنامة ليس مفاجأة على الإطلاق، فقد شهدت المملكة خلال السنوات العشر ونيف الأخيرة من تاريخها تطورات كبيرة في مجال حقوق الإنسان، كما قطعت خطوات طويلة في مجال احترام تلك الحقوق والتأكيد على أهميتها ومحوريتها باعتبارها قاعدة أساسية تنطلق منها إلى المستقبل الواعد؛ وهو ما استغرق من غيرها من الدول بضعة عقود لكي تنجزه. وقد تزامنت هذه الخطوات مع انطلاق مسيرة المشروع الإصلاحي لجلالة الملك في مطلع الألفية الثالثة الذي بدأ بميثاق وطني وتعديلات دستورية تمثل الحرية والانفتاح واحترام حقوق الإنسان قوامها الأساسي، وما تلاه من إصدار قرارات ومراسيم ملكية في مجال احترام حقوق الإنسان وتنفيذها سواءً على المستوى الوطني أو على مستوى العلاقات الخارجية. فقد شهدت تلك الفترة صدور قرارات متعددة بالعفو عن المعتقلين والسماح بعودة المعارضين وإعادة الجنسية البحرينية لمن نزعت منهم بسبب مواقفهم السياسية، وزيادة مساحة الحريات والسماح بتأسيس نقابات عمالية ومنح العمال حق الإضراب. أما على مستوى تفعيل حقوق الإنسان في المجال الخارجي، فقد وقع جلالة الملك مرسوماً في 17 أغسطس 1999م بالانضمام للاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، وتلا ذلك إصدار المرسوم رقم (6) لسنة 2000م بالتصديق على تعديل الاتفاقية الدولية الخاصة بالقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري لعام 1965م.
وإذا أضفنا لذلك أن مملكة البحرين لها تجربة ديمقراطية متميزة في منطقة الخليج العربي، حيث تسمح بإنشاء الجمعيات التي تمارس العمل السياسي وتجري فيها انتخابات برلمانية وبلدية نزيهة، كما أن المملكة هي إحدى الدول القلائل في العالم التي توفر شروطاً ميسرة لتنظيم المظاهرات والمسيرات، حيث تسمح بالقيام بها بمجرد الإخطار. وقد نتج عن هذا المناخ الملائم تنظيم نحو 1154 اعتصاماً ومسيرة ومظاهرة سلمية مخطر عنها منذ إلغاء قانون أمن الدولة في عام 2001م، وحتى نهاية سبتمبر 2010م، ناهيك عن المسيرات والاعتصامات والتجمعات الغير مرخص بها، فضلاً عن التوسع في عقد الندوات والمحاضرات وورش العمل والحلقات النقاشية التي قامت بتنظيمها مؤسسات وهيئات أهلية ومهنية، حيث وصل عددها إلى 3589 فعالية في الفترة من فبراير 2001م وحتى نهاية ديسمبر 2010م.
المراجعة الشاملة لحقوق الإنسان
وفي مجال التقارير الحقوقية الدولية، تقدمت مملكة البحرين بتقريرين للمراجعة الدورية الشاملة في عامي 2008 و2012م، واستقبلهما المجتمع الحقوقي الدولي، متمثلاً في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، بتقدير بالغ، حيث أعربت لجنة المناقشة والتقييم عن ارتياحها لأوضاع حقوق الإنسان في المملكة والجهود التي تبذلها الحكومة في سبيل الحفاظ على حقوق الإنسان والتأكيد على احترامها، وهو ما اعتبر إنجازاً حقوقياً مشرفاً يضاف لإنجازات الحكومة في هذا المجال منذ بدء المشروع الإصلاحي لجلالة الملك، كما يعد رداً دولياً صريحاً على محاولات تشويه سجل البحرين الحقوقي، ودليلاً على ثقة المجتمع الدولي واحترامه للبحرين وإجراءاتها وتعهداتها في مجال صيانة حقوق الإنسان وكرامته، وهي الثقة التي ساهمت في نيل المملكة عضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لدورتين متتاليتين، في 2006 و2008م.
ولم يتوقف التميز البحريني عند هذا الحد، فقد كانت المملكة أيضاً هي إحدى الدول القلائل –أو ربما الوحيدة- التي تطلب حكومتها تحقيقاً دولياً مستقلاً من جانب قضاة دوليين مشهود لهم بالحيدة والنزاهة والكفاءة لاستجلاء الحقائق في أحداث داخلية تتعلق بخلافات سياسية.
ومن هنا، نعيد التأكيد على أن اختيار المنامة مقراً للمحكمة العربية لحقوق الإنسان لم يأت بمحض الصدفة ولا كان مجاملة بروتوكولية من جانب مجلس جامعة الدول العربيـــة لمملكـــة البحريـــن علـــى سبقهـــا فـــي تقديـــم الاقتـــراح الملكـــي السامـــي باستضافـــة المحكمـــة، وإنمـــا كـــان تعبيـــراً عـــن تقديـــر الـــدول العربيـــة لسجـــل المملكـــة فــي مجـــال حقـــوق الإنسان وأدائها الراقـــي فـــي حفـــظ الحقـــوق والحريـــات والموازنـــة بيـــن حـــق الفـــرد وحـــق المجتمـــع.
نزار طحاوي - خبير سياسي بمعهد التنمية السياسية