بعد رواية «صفحات المهزلة» التي قارب فيها الأديب التونسي خير الدين جمعة العمل السياسي في الجامعة التونسية في الثمانينيات وفكك فيها إخفاقاته عند اليسار واليمين وسجل انكسارات الحالمين وخيباتهم، يخرج علينا الكاتب -المقيم بالإمارات- بمجموعة قصصية عن «دار الغاوون» اللبنانية، بعنوان: «أكاذيب أمي الخمس» ليوسع من عوالمه الإبداعية الذاهبة إلى فتح الملفات القديمة. ويفتح جمعة ملفات شخصية لسيرتَي الطفولة والصبا، وكأن باولو كويلهو يردد من خلفه عبارته الشهيرة «عليك أن تذهب إلى نحت أسطورتك الشخصية».
طفولة الفقد
ويمثل الفقد موضوعاً مركزياً لأغلب قصص المجموعة التي تعيد بناء فضاءات البؤس والفقر وتروي ضروب الفاقة واليتم التي عاشها السارد المنزوع الاسم. وهذا الرجل الذي سقط منه اسمه يرفعه المؤلف رمزاً للطفولة في فضاءات الهامش حيث يسقط الرجال والنساء والأطفال في صمت. ويقرن الكاتب قصة فقدان الشخصية لاسمها بفقدان الأم كما في هذا النص البرقي «أمي تناديني: اسمي طويل وحروفه متنافرة، اسمي الجميل دفن مع صوتها». وتتقاطع معظم هذه النصوص القصصية عند جمعة في رسم وجه الأم المفقود عبر أشكال تعبيرية وفنية مختلفة، وتبدأ ملحمة تجميع شتات هذا الوجه من العنوان «أكاذيب أمي الخمس» إلى الإهداء الذي كان عتبة مهمة كشفت طبيعة العلاقة التي تربط الكاتب بالأم، وتجنيس النصوص ضمن ما يسمى بالتخييل الذاتي، حيث تكاد تتطابق صورة الكاتب بصورة الراوي.
الكذب والمقاومة
في المجموعة يرفع الكاتب الكذب باقترانه بالأم إلى مرتبة الحكمة واستراتيجية المقاومة التي اجترحتها الأم لتهزم الفقد والفقر والجوع أمام أبنائها، فيكشف سر أكاذيبها في نصوص متناسلة من بعضها، إذ نحن أمام ما يمكن أن نسميها بأخلاق الكذب في معناها العميق.
يقلب خير الدين جمعة نصوصه بين القصة القصيرة جداً وتقنية التوليد القصصي أو ما يعرف بـ«الدمى الروسية»، كما تنحو القصص أحياناً نحو اللوحات المنفلتة من أطرها، فتكسر عمود السرد لتؤسس خصوصيتها الفنية متجاوزة كل تقاليد الكتابة القصصية الكلاسيكية، ليبدع في النهاية نوعا من القصص البرقية، يمكن أن نبتدع لها بدورنـــا وصفا بكونها قصص المفاهيم والتعريفات، حيث تكون القصة مفهوما لعنوانها، وضعها كلها تحت عنوان «هلوسات». وهي نصوص تجعل من الأدب والأدباء والتاريخ وأبطاله والأعمـــال الفنيـــة موضوعــــات للقصــــص، حيـــث يوجــد «وليد مسعـــود» و«آنا كارنيينا» و«المقامـــر» و«الغريـــــب» و«ذهــــب مـــــع الريح» و«جلال الدين الرومي» و«الموناليزا» و«هانيبال». وتحضر عبر تناص ذكي يلتقطه القارئ حسب درجة معارفه وقراءاته كتلك الإحالة الذكية في»أكاذيب أمي الخمس» على نص محمود المسعدي الشهير «حدث أبو هريرة قال: «عندما ختم خير الدين قصته بقوله «رحم الله أمي لقد كانت أعظم من أن تظل على قيد الحياة» في إحالة على نهاية رواية المسعدي.