كتب - قاسم حداد:
1
في ورشة خالد الشيخ : الفشل ممنوع.
كنا نعمل تحت هذا الشرط في ورشة «وجوه». أحياناً لا نعرف حدود الليل من النهار، نفترش أرضية الاستديو تفادياً للوقت القاتل. وحين حاولت الإشارة إلى خطأ صغير في أداء اللغة، أنظر إلى أنامل خالد تحمرُ لفرط الانفعال، خشية فشل صغير. سقف الجودة شاهق وحياتنا برمتها قيد التجربة.
مع خالد الشيخ تعلمتُ درس الإنجاز الفني مثل طفل ينتقل من الحضانة إلى الجامعة، برفقة مايسترو يحسن الدرس بروح الناسك. فليس سهلاً العمل مع شخص يختزل قول: في الفن القناعة كنزٌ لا ينفع.
2
المعنيون بالموسيقى، المتابعون لتجربة خالد الشيخ، يدركون الانتقال الفعال من التلحين إلى التأليف الموسيقي، وهي تقنية أسس لها خالد في بعض أعماله الغنائية، ليأتي إلى تجرية «وجوه» ويحقق المعنى الأوضح للتأليف الموسيقي، وهي انتقالة منحت هذا العمل فرادة نوعية في سياق تجربة خالد الشيخ وتجاربنا عموماً.
وأزعم أن هذا الإنجاز ما كان سيتحقق لو أن خالد الشيخ امتثل للقراءة العادية للنص الشعري. فالحرية الواعية التي تعامل بها خالد مع النصوص هيأت له أن يعيد كتابة الشعر «موسيقياً» بحساسية مميزة، جعلتني أكتشف نصي بشكل جديد فعلاً، وأحبه أيضاً.
3
الفن لا يتخلق إلا بدرجة واضحة من حرية الجرأة،
والجرأة التي يتميز بها عمل خالد تصدر عن خبرة طويلة في قراءة الأدب ووعي جمالي بالنص الشعري العربي، يمكن اكتشافه في العديد من أعماله السابقة، الأمر الذي يندر مصادفته في تجارب عربية راهنة.
والحرية الفنية أسست لخالد الشيخ، بعد تجربة طويلة، قدرة على حماية مشروعه بقدر كبير من الثقة الواقعية، حتى أنه إذا عمل مع المؤسسة فإنه يذهب بشرطه الفني حماية لعمله من الابتذال الإعلامي. وهي خاصية يندر أن ينتبه لها فنانون كثيرون في الواقع العربي.
4
منذ بدأ خالد الشيخ مشروعه الموسيقي، منتصف الثمانينات، كان يعمل في ظروف غير مواتية على الإطلاق، فثمة مسافة ثقافية بين حلمه الفني وبين تضاريس الواقع وتجاعيد الجهل المستحكم. حتى أنني كنت أرقب المفارقة الفادحة بين ملامح مشروع خالد الشيخ ساعياً للتقدم بالموسيقي وبين التدهور المنتظم الجارف للواقع الثقافي العربي المؤسَسي، المعني بالموسيقى والشأن الثقافي خصوصاً. الأمر الذي بات يكبح الاندفاع الجاد لأي مشروع جديد مثل خالد الشيخ، ويرشح للذهاب إلى الفشل الحضاري الشامل الراهن.
وظني أن الامتحان الحاسم لأية موهبة هو أن تعمل وتنجز إبداعها في الظروف الصعبة، وهذا ما تحتم على خالد الشيخ أن يقترح علينا مفهوماً صارماً، للانهماك الموسيقي، بعدد من الأعمال الموسيقية الفاتنة التي لم تزل حاضرة في ذاكرة محبي الفنون وأرشيف الإبداع الموسيقي العربي.
5
من بين أهم وأخطر مميزات تجربة خالد الشيخ، أن الناقد في داخله أخذ ينمو بتسارعٍ يكاد يسبق الفنان عنده، وهذه الظاهرة، «لفرط قلقها وحرصها على نوعية الإنجاز وتطوره»، من شأنها أن تعرقل العمل الابداعي في صيغته الإنتاجية، وربما عوقت «لئلا أقول عطلت» أحياناً جانباً مهماً من الانهماك في مواصلة العمل. ففي حالة خالد الشيخ، يتفوق القلق الفني عنده على الاطمئنان والثقة في ما ينتج، مما يدفعه، بين وقتٍ وآخر، لعزلة المراجعة والتأمل بقسوة معرفية واضحة مع منجزه.
هذه هي مسؤولية المبدع في مهمته إزاء ذاته قبل أية جهة في العالم.
وتلك هي المسافة الجهنمية بين ما يحلم به الفنان في خالد الشيخ وما يفكر به الناقد عنده. من هنا سيظل خالد الشيخ تجربة نادرة المثيل في مشهد الفن الموسيقي العربي. لعل المستقبل يرأف بنا كلما تيسر لنا مبدعٌ على هذه الشاكلة، فهو شفيعنا الكوني حيث لا منقذ سوى العلم.